BBC

أكثر من 100 يوم منذ إعلان المجاعة في غزة: “توقفت الحرب لكن أثر الجوع مازال ينهش أجساد أطفالي”

صورة لأشخاص من خلف سور يمدون أوانيهم الفارغة في انتظار نصيب من الأكل الساخن الذي تقدمة المطابخ المجتمعية.
Getty Images
تعاني مطابخ الطعام الخيرية أيضا من محدودية ما يمكن أن توفره في غياب مواد غذائية أساسية مثل اللحوم الطازجة وبعض الخضروات

في آب/أغسطس هذا العام، عندما أعلنت الأمم المتحدة رسمياً المجاعة في غزة، كانت عظام محمد وعدي مهرة البارزة شاهداً على أثر الجوع في سكان القطاع.

وصل الطفلان، البالغان من العمر ثلاثة وأربعة أعوام، حالةً شديدةً من سوء التغذية وهما اللذان يعانيان في الأساس مرضاً جينياً وتأخراً في النمو.

قبل شهرين من نهاية الحرب، التقت بي بي سي عائلة مهرة في موضع نزوحهم من جباليا شمال القطاع إلى مدينة غزة.

وكانت الأم آمنة تحمل بين ذراعيها مولوداً جديداً، عمره أيام فقط، لا تجد في صدرها ما ترضعه إياه ولا في البيت ما تأكله.

حدثنا الوالد بلال، الذي بترت ساقه في انفجار صاروخ أثناء الحرب، عن عجزه وقهره وهو لايقدر على سد جوع أطفاله.

“قد أفقد أياً من أطفالي في أي حين بسبب الجوع”، هذا أكثر ما يقلق بلال.

صورة الطفلين عدي ومحمد في آب/أغسطس 2025 عظامهما بارزة ويبدو عليهما أثر سوء التغذية.
BBC
صورة الطفلين عدي ومحمد مهرة في آب/أغسطس 2025

في 22 آب/أغسطس 2025 أعلن “التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي -IPC” المدعوم من الأمم المتحدة، أن نصف مليون شخص في غزة يعانون المجاعة، وهي المرحلة الكارثية الأشد في التصنيف.

وتوقع التقرير حينها انتشار المجاعة في معظم أنحاء غزة في سبتمبر/أيلول.

خريطة انعدام الأمن الغذائي في غزة حسب تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في 22 آب/أغسطس 2025. تظهر حالة الطوارئ في دير البلح وخان يونس وحالة مجاعة تشير إلى حدوثها قرائن منطقية في مدينة غزة. 
لا يوجد تصنيف لشمال غزة بسبب نقص البيانات. ولم يحلل التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي منطقة رفح.
BBC
خريطة انعدام الأمن الغذائي في غزة حسب تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في 22 آب/أغسطس 2025

دخل اتفاق وقف إطلاق نار هش في غزة حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2025 وبدأت المساعدات تصل بيوت كثيرين في غزة وعادت رائحة الخبز تنتشر في بعض أرجاء القطاع بعودة مخابز للعمل.

لكن معاناة عائلة مهرة التي نزحت مجدداً إلى خان يونس جنوب غزة مستمرة والجوع مازال ينخر أجساد أطفالها.

شهد وضع الطفلين تحسناً طفيفاً بعد أن وصلت العائلة بعض المساعدات. لكن بلال وآمنة يقولان إن حالة سوء التغذية التي وصلها الطفلان في الأشهر الماضية أثرت على تقبل جسميهما للأكل.

باتا يعانيان من إمساك متواصل وانتفاخ غير طبيعي في البطن يحرمهم النوم ليلاً ويحتاج علاجاً يومياً.

ويقول الوالدان إن الطفلين يجدان صعوبة في الهضم والتبرز وتتساقط أسنانهم دون أن تنبت أسنان جديدة.

“يعيش أولادي الآن برغم سنهم هذا على حليب الرضع، حتى عندما يتوفر الأكل، نحاول إطعامهما لكن لا تتقبل أجسادهما غير البطاطا والكوسا المسلوقة”، يقول بلال الذي بات حلمه الآن أن يرى طفليه محمد وعدي “يأكلان ويلعبان كأطفال طبيعيين في سنهم”.

تقسط الأم آمنة استخدام حليب الأطفال الذي وصلهما منه علبتان الشهر الماضي، تضيف إليه كميات أكبر من الماء وتقسمه بين أطفالها الثلاثة. ولا يحصل الطفلان، بحسب والديهما، على أي مكملات غذائية تعوض ما ينقص جسميهما.

يحتاج أطفال بلال إلى علبة حليب يومياً سعرها 30 شيكل (9.15 دولار) بالإضافة إلى الحفاضات.

صورة تظهر بطن أحد الطفلين منتفخة بشكل غير طبيعي بينما مازالت عظام صدره بارزة
BBC
يعاني محمد وعدي بشكل متواصل من انتفاخ غير طبيعي في البطن – خان يونس نوفمبر 2025
صورة الطفلين عدي ومحمد في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 يبدو عليهما بعض التحسن مقارنة بوضعهما في آب/أغسطس 2025
BBC
صورة الطفلين عدي ومحمد في نوفمبر /تشرين الثاني 2025

مساعدات متعثرة وغير كافية

ستحصل عائلة مهرة على نصيب من المساعدات كل شهر، حسب دورة توزيع المساعدات التي يهدف برنامج الغذاء العالمي إلى الالتزام بها.

ووصلت المساعدات إلى مليون شخص فقط في الشهر الأول بعد وقف إطلاق النار، بينما كان البرنامج يهدف إلى مساعدة 1.6 مليون شخص شهرياً.

وقال مارتن بينر، من برنامج الغذاء العالمي لبي بي سي إن البرنامج يركز الآن على إيصال مساعدات شهرية إلى النساء الحوامل والمرضعات والأطفال دون سن الخامسة.

ووزعت المساعدات بمعدل طرد غذائي واحد لكل عائلة في الشهر الأول.

“حصلنا على نصيب (كابونة) من المساعدات مرة واحدة منذ توقفت الحرب، ولم يكن ذلك كافياً”، يقول بلال، “وأنا لم أعد أستطيع العمل بسبب بتر ساقي ولا أملك مالاً أشتري لعائلتي طعاماً من المتاجر، ثمن كيس الطحين 80 شيكل (24.4 دولار)، لا أقدر على توفيرها”.

وتُشير المنظمة الأممية إلى أنه منذ 16 نوفمبر/تشرين الثاني ارتفع حجم المساعدات، لتحصل كلّ عائلة على طردين غذائيين إضافة إلى كيس طحين يزن 25 كيلوغراماً.

وبحسب تقدير بينر تغطي المساعدات التي تصل العائلات الآن 75 في المئة من حاجتهم الغذائية اليومية على أقصى تقدير وتكفي نحو ثلاثة أسابيع، لكن حسب حجم العائلات وحاجاتها قد لا يكفي طرد المساعدات إلا لأيام معدودة.

أم حامد الندر نازحة من جباليا إلى غرب مدينة غزة مع سبعة أطفال بالإضافة إلى زوجها العاطل عن العمل، وهي حامل تحتاج إلى تغذية خاصة. قالت لبي بي سي إن طرد المساعدات الذي تلقوه من برنامج الغذاء العالمي، وقد اقتصدت في استهلاكه، لم يدم أكثر من خمسة أيام.

بالإضافة إلى المساعدات الغذائية المباشرة بين الطرود الغذائية والمخابز التي أعادت الأمم المتحدة تشغيلها والمطابخ الخيرية، تقدم المنظمات الإنسانية مساعدات مالية طارئة لبعض العائلات حتى يتمكنوا من شراء بعض ما يحتاجون.

ومع دخول المواد التجارية بدأت رفوف المحلات في الامتلاء بسلع محدودة لكن كثيرين في القطاع لا يستطيعون توفير مال لشرائها. إذ أظهر إحصاء لبرنامج الغذاء العالمي أن ثلثي العائلات المشاركة لا تستطيع الشراء إما لشح النقد في القطاع أو لعدم امتلاك الأشخاص ما يكفي من المال في أي شكل لشراء أساسيات الحياة.

وحسب تقرير البرنامج لمراقبة الأسواق في غزة، فإن أسعار المواد الأساسية تراجعت قليلاً لكنها تبقى أغلى مما كانت عليه قبل الحرب.

أما مطابخ الطعام الخيرية فتعاني هي أيضاً من محدودية ما يمكن أن توفره وإن تحسن الوضع قليلاً في الأسابيع الماضية.

وقالت مؤسسة المعونة الأمريكية للاجئين في الشرق الأدنى (أنيرا)، التي تدير مطبخاً للطعام وسط غزة وآخر في المواصي جنوب القطاع، إنها توفر الطعام الآن لنحو 20 ألف شخص.

وكشفت أنيرا في تقرير سابق لبي بي سي إن ما تقدمه “يقتصر في الغالب على طهي ثلاثة أنواع فقط من الوجبات أسبوعياً: الأرز والمعكرونة والعدس”.

وتفتقر بالتالي الوجبات المتوفرة إلى الخضروات الطازجة واللحوم التي تحتاجها أجساد الغزيين المنهكة من الحرب والجوع.

القيود الإسرائيلية تعيق توسيع العمليات الإنسانية

تدخل المساعدات عبر معبري كيسوفيم وكرم أبو سالم بينما ترفض إسرائيل فتح معبر رفح حتى الآن.

وفي منتصف شهر تشرين الثاني/نوفمبر استجابت إسرائيل لمناشدات أممية بفتح معبر زكيم، المنفذ الرئيسي الذي سهل وصول المساعدات لسكان شمال القطاع.

لكن دخول المساعدات من هذه المعابر يبقى خاضعاً لمراقبة وتنسيق إسرائيلي. وتقول الأمم المتحدة إنه لا يزال مقيداً بشكل كبير.

في تقرير لمجلس الأمن الدولي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني طالب المنسق الأممي للشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية رامز الأكبروف، إسرائيل بـ”توسيع القدرة الاستيعابية للمعابر وتسريع إجراءات إدخال الإمدادات، بما في ذلك إمدادات الأمم المتحدة”.

تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن إسرائيل تعطل بعض العمليات الإنسانية بعد الموافقة عليها، مبررة ذلك بـ”اعتبارات تشغيلية”. وتطالب المنظمات الأممية إسرائيل بفتح المعابر وتخفيف القيود لتسريع الإغاثة.

“توفر الغذاء قد لا يكون كافيا لإنقاذ حياة من وصلوا نقطة اللاعودة”

في مستشفى جمعية أصدقاء المريض الخيرية في مدينة غزة، يتابع الدكتور سعيد صلاح، استشاري طب الأطفال حديثي الولادة ومسؤول قسم التغذية، تحسن الوضع نوعاً ما بعد بدء توفر الغذاء.

وكان المستشفى قد شهد خمس حالات وفاة بسبب سوء التغذية في غضون أسبوعين في شهر تموز/يوليو الماضي حين بلغ الجوع في المدينة أقصى درجاته.

ويقول الدكتور صلاح لبي بي سي إن تأثر أجسام هؤلاء الأطفال بنقص الغذاء ليس مرتبطاً وقتياً بوجود الأكل أو عدمه. فتأثير عدم التوازن في التغذية وافتقاد بعض أو كل العناصر الغذائية اللازمة من بروتينات ونشويات وكاربوهيدرات وأملاح وغيرها، يخل بوظائف الجسم وقد يؤدي إلى موت هؤلاء الأطفال حتى إن لم يقترن سوء التغذية لديهم بأمراض سابقة، خاصة بالنسبة للأطفال الذين وصل وضعهم إلى ما وصفه بنقطة اللاعودة. حينها حتى توفر الغذاء قد لا يكون كافياً لإنقاذ حياتهم.

رسم لجسم الإنسان وأعضائه الداخلية، عليه شرح لتأثر الجوع على الجسم: ضعف الجهاز المناعي، وضعف الوظيفة العقلية، وانخفاض الكتلة العضلية، وتقلص سعة الرئة، والسكتة القلبية، وانكماش المعدة، وانكماش الأعضاء التناسلية.
BBC
رسم لجسم الإنسان وأعضائه الداخلية، عليه شرح لتأثر الجوع على الجسم

بعض الأطفال الذين لم تتقبل أجسامهم الغذاء أو لم تقدر على امتصاصه يحتاجون تغذية طبية عن طربق الوريد (TPN) ويقول الدكتور صلاح إن كل محاولاته الحصول على هذا العلاج فشلت في كل مرة لعدم توفره في كامل القطاع. وقد توجه في مرات كثيرة إلى منظمات أممية لكنه يقول إن العلاج لم يصل حتى الآن لأن دخوله يستوجب تنسيقاً بين المنظمات الأممية المسؤولة والسلطات الإسرائيلية.

بعد شهر ونصف من وقف إطلاق النار، لا يزال قطاع الصحة في غزة في حالة انهيار، بحسب ما تذكر منظمة يونيسيف.

وتقول الأمم المتحدة إن المستشفيات التي لا تزال تعمل، تواجه نقصاً حاداً وتصارع من أجل توفير أساسيات الحق في الصحة لآلاف الأطفال.

في الأثناء لا يزال خطر سوء التغذية الحاد قائماً خاصة بين الأطفال في غزة.

يقول مارتن بينر لبي بي سي إن برنامج الغذاء العالمي يعمل مع شركائه على رصد حالات يهددها سوء التغذية لمحاولة إمدادها بمواد مغذية خاصة.

موسم الأمطار يزيد الوضع سوءاً

صورة لخيمة في غزة محاطة بمياه الأمطار
BBC
أدت الأمطار إلى تلف طرود المساعدات التي قدمت لبعض العائلات في خيامهم التي لا تقي من المطر.

وبينما تحاول المنظمات الإنسانية تحدي محدودية مواردها المخصصة للمساعدات والقيود الإسرائيلية المفروضة على إيصالها، خاصة في ظل هشاشة اتفاق وقف إطلاق النار، بات موسم الأمطار يشكل أزمة جديدة.

تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من مليون شخص لا يزالون في مخيمات، يعانون للحصول على المساعدة ويواجهون ظروفاً تزداد صعوبة مع اقتراب فصل الشتاء.

قال مارتن بينر لبي بي سي، إن الأمطار أدت إلى تلف طرود المساعدات التي قدمت لبعض العائلات في خيامهم التي لا تقي من المطر، بالإضافة إلى تعطيل نقل وتوزيع المساعدات.

وقال بينر إنّه، وفي إطار محاولات مساعدة النازحين على مواجهة هذه الظروف، بدأوا باستخدام أكياس الحبوب الفارغة لصنع حواجز رملية تقي الخيم من السيول.

في خيمتهم في مواصي خان يونس، يحاول بلال وآمنة مهرة إبقاء أطفالهم دافئين بطبقات من الثياب، تنزعها الأم عن عدي ومحمد لترينا أثر الجوع وعظامهم التي مازالت بارزة. الأمل الوحيد لدى العائلة الآن هو مغادرة القطاع حتى لعلاج الطفلين بعد أن عجز القطاع الصحي في غزة عن ذلك.

أكثر من 100 يوم منذ إعلان المجاعة في غزة: "توقفت الحرب لكن أثر الجوع مازال ينهش أجساد أطفالي"

BBC Arabic

🛈 تنويه: موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً أو مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

زر الذهاب إلى الأعلى