الخليج بين موسكو وواشنطن: حسابات السياسة و”براغماتية” الطاقة

منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وجدت دول الخليج العربية نفسها أمام تحدٍّ دبلوماسي واقتصادي معقّد: كيف تحافظ على تحالفاتها الأمنية والتجارية مع الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته تواصل تعزيز التعاون مع روسيا، خاصة في مجالات الطاقة والتجارة؟
الأكاديمي العُماني المختص في العلاقات الدولية وشؤون الخليج والشرق الأوسط، الدكتور عبد الله باعبود، رأى أن دول الخليج تبنّت بشكل عام نهجاً براغماتياً في إدارة علاقاتها مع موسكو وواشنطن.
وأضاف في مقابلة مع بي بي سي عربي أن هذا النهج الذي وصفه بالمتوازن، يعكس رغبة تلك الدول في الحفاظ على ما اعتبره حياداً إيجابياً، مصحوباً باستقلالية استراتيجية، بعيداً عن الانحياز الحاد لأي من الدولتين القطبين، وهو توجّه مدفوع – بحسب باعبود – بالمصالح الاقتصادية والسياسية التي تتلاقى مع روسيا والولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهو ما يُظهر نضجاً في السياسة الخليجية، كما يقول.
- القواعد الأمريكية في الخليج: ماذا نعرف عنها؟
- روسيا وأوكرانيا: لماذا تختار دول الخليج معسكر بوتين في حرب أوكرانيا؟ – الإندبندنت
ويضيف باعبود لبي بي سي بالقول: “إن استراتيجية تعدّد الشراكات لدول الخليج سواء مع واشنطن أو موسكو أو بكين، هي استراتيجية ضرورية وليست خياراً، وهي تسهم في تعزيز الاستقلالية السياسية والاقتصادية، مع تقليل الاعتماد على قوّة عظمى واحدة، تجنّباً للمخاطر المحتملة المرتبطة بالتحالفات التقليدية، خصوصاً في ظل رغبة دول الخليج في لعب دور محوري على الساحة الدولية والاستفادة من توسّع ساحة المناورة”، على حدّ تعبيره.
ورغم الضغوط الغربية الشديدة الرامية لفرض عزلة دولية على روسيا، تبنت دول الخليج العربية، ما يراه محللون سياسة توازن محسوبة ومتأنّية، مكّنتها من حماية مصالحها مع الطرفين، من خلال اعتمادها على أدوات توازن، تنوّعت بين السياسة والاقتصاد والدبلوماسية.
في مقدّمة هذه الأدوات، الفصل بين ملفيْ الاقتصاد والأمن.
فقد تمكّنت هذه الدول الخليجية حتى الآن، من الإبقاء على تعاونها العسكري والأمني مع الولايات المتحدة، وهو تعاون ازداد عمقاً بعد الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى السعودية وقطر والإمارات في مايو/أيار الماضي، من خلال العقود التي تم إبرامها خلال هذه الجولة.
وشملت هذه الصفقات الأمنية والعسكرية: صفقات تخص الأسلحة والتدريب العسكري، من دون إغفال أهمية القواعد العسكرية الأمريكية في دول الخليج، وفي مقدّمتها قاعدة العُديد في قطر، وهي أكبر قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط.

وفي هذا السياق، يشير باعبود إلى أن الولايات المتحدة تظلّ الضامن الأساسي للأمن في دول الخليج، بينما يبقى التعاون الدفاعي مع روسيا محدوداً، ويقتصر على عدد قليل من صفقات شراء الأسلحة الروسية.
وتتمحور الصفقات بين روسيا وبعض الدول الخليجية، مثل الإمارات والسعودية، حول أسلحة ومعدات، في مقدّمتها المروحيات والدبابات الروسية القتالية من طراز BMP-3 وأنظمة كورنيت المضادة للدبابات وأنظمة الدفاع الجوّي. غير أن كل هذه الصفقات تعتبر محدودة مقارنة مع الصفقات المبرمة مع دول الغرب وفي طليعتها الولايات المتحدة.
أما فيما يخص العلاقة مع روسيا، فقد استمر التنسيق النفطي مع موسكو، لا سيما من قبل السعودية والإمارات، من خلال مجموعة “أوبك +” الهادفة لضبط أسعار النفط العالمية، حتّى عندما أدّى ذلك إلى تململ أمريكي في عهد الرئيس السابق جو بايدن.
إضافة إلى التعاون النفطي، بدا لافتاً زيادة حجم التبادل التجاري بين دول الخليج العربية من جهة وروسيا من جهة ثانية، لا سيما بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.
فعلى سبيل المثال، بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والإمارات عام 2021 أي قبل نشوب هذه الحرب 5.36 مليار دولار أمريكي، فيما يبلغ حالياً 11 مليار دولار، وفق ما أعلن الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، خلال لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الخميس الماضي، في موسكو.

وفي السياق ذاته، ارتفع حجم التبادل التجاري بين روسيا والسعودية من 2.2 مليار دولار عام 2021 إلى 3.7 مليار عام 2023.
أما على صعيد الدبلوماسية والعلاقات الثنائية، فقد تمكّنت الدول الخليجية من الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين الروسي والأوكراني، ولجأت دول مثل السعودية والإمارات، إلى إرسال مساعدات إنسانية لأوكرانيا من دون أن يؤثّر ذلك على علاقاتها مع روسيا.
كما تجنّبت هذه الدول المشاركة في فرض عقوبات على موسكو، بل على العكس، أصبحت دولة مثل الإمارات، مركزاً مالياً للتعاملات الروسية بعد فرض العقوبات الغربية، إذ استقبلت أكثر من 3500 شركة روسية، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، بحسب تصريحات سابقة لرئيس مجلس الأعمال الروسي الإماراتي سيرغي غوركوف، وهي شركات تعمل في قطاعات مختلفة، منها تكنولوجيا المعلومات والصناعات الدوائية والإنتاج الصناعي والنفط والغاز والبتروكيماويات.
أضف إلى ذلك، بروز دبي كملاذ آمن للأثرياء الروس الراغبين في تفادي العقوبات الغربية المفروضة على بلادهم.
دبلوماسياً أيضاً، لعبت كل من السعودية والإمارات دوراً كوسيط في سلسلة عمليات لتبادل الأسرى بين موسكو وكييف، إذ تميّزت الإمارات بدور بارز وشامل في هذا الملف.
كما أسهمت قطر في وساطات عدة على مدى السنوات الماضية، نجحت من خلالها في إعادة عشرات الأطفال الأوكرانيين إلى عائلاتهم.
- روسيا وأوكرانيا: كيف ينظر العالم العربي إلى الحرب في أوكرانيا؟
- روسيا وأوكرانيا: السعودية والإمارات خذلتا بايدن في مواجهة موسكو – الغارديان

وفي هذا الإطار، اعتبر الكاتب والباحث السعودي في العلاقات الدولية، الدكتور سالم اليامي، أن موضوع التزام الحياد يُعتبر من بين أصعب القضايا في بيئة دولية متغيّرة ومعقّدة، لكنه أضاف في مقابلة مع بي بي سي عربي، أن دول الخليج تميّزت بـ “مصداقيتها وسجلها النظيف” بين أعضاء المجتمع الدولي.
وقال: “أرى أن جزءاً من نجاح المنظومة الخليجية في إقامة علاقات متوازنة مع القوى الكبرى يعود إلى تعدّد المصالح المشتركة مع مختلف الأطراف، والنهج الخليجي الذي أصبح نموذجاً مميّزاً للمنطقة، ويقوم على نسج علاقات مبنية على المصالح المتبادلة من دون المساس بمصالح أي طرف ثالث”.
ولكن هل ستتأثر العواصم الخليجية في حال ساءت العلاقة بين موسكو وواشنطن؟
الكاتب الإماراتي وأستاذ العلوم السياسية، الدكتور عبد الخالق عبد الله، استبعد تفاقم الخلافات بين الولايات المتحدة وروسيا أكثر مما هي عليه حالياً، معتبراً في المقابل أن هناك حرصاً من جانب الإدارة الأمريكية الحالية، على تقليل الخلافات والتوصّل إلى تفاهمات، خصوصاً بشأن ملف الحرب في أوكرانيا.
وأضاف في مقابلة مع بي بي سي عربي: “أتوقع أن يكون للإمارات دور مهم في تخفيف التوتّر والتوصّل إلى تهدئة، ولا أستبعد عقد لقاء ثلاثي أمريكي روسي أوكراني في العاصمة الإماراتية أبوظبي قبل نهاية هذا العام”.
- هل يمكن أن تنتهي حرب أوكرانيا في عام 2025؟
- هل كشف غزو روسيا لأوكرانيا عن شروخ في علاقة واشنطن مع دول الخليج؟
كلام الكاتب الإماراتي جاء متناغماً مع ما سبق وأعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال استقباله نظيره الإماراتي في موسكو قبل أيام، حينما قال إن الإمارات مكانٌ محتمل لعقد القمة المرتقبة بينه وبين نظيره الأمريكي.
بدوره، أشار اليامي إلى أن لا أحد في المجتمع الدولي يرغب في تصعيد الخلافات بين الجانبين الروسي والأمريكي، وأن هناك قناعة واسعة بأن لدى قيادات الطرفين القدرة على التوصّل إلى حلول سلمية، تقي الجميع ويلات الصراع.
ورأى اليامي أن دول الخليج تتمتّع بإمكانات واسعة للعب أدوار إيجابية، تنطلق من دعم مسارات التسوية الودّية والمشاركة في إنجاز خطوات، تخفّف من حدّة النزاعات، لافتاً إلى المساعدات التي قدّمتها السعودية للشعب الأوكراني، والانخراط في عمليات الوساطة بشأن تبادل أسرى الحرب، بين روسيا وأوكرانيا.
واعتبر اليامي أن اللقاء الذي احتضنته مدينة جدة في مارس/آذار الماضي، بين الجانبين الأمريكي والروسي تحت إشراف ورعاية سعودية، لعب دوراً مهمّاً، على حد تعبير الكاتب السعودي، في فتح نافذة جديدة لمسار علاقات أكثر سلمية بين الولايات المتحدة وروسيا.

في النهاية، يمكن اعتبار النهج الخليجي في تبني نهج متوازن فيما يتعلق بالعلاقات مع موسكو وواشنطن تحوّلاً واضحاً، من الاعتماد الحصري على الغرب، إلى سياسة تنويع الخيارات والعلاقات مع دول مختلفة، في إطار السعي لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية وأمنية.
ومع ذلك، يبقى استقرار هذا التوازن مرتبطاً بمدى تصاعد حدّة الحرب بين روسيا وأوكرانيا أو تشديد العقوبات الغربية على موسكو.
كما يبقى نجاح هذه الاستراتيجية مرهوناً بقدرة دول الخليج العربية، على الحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع روسيا، مع الاستمرار في الاعتماد على الدعم الأمني الأمريكي، الذي يُوصف دائماً بأنه الركيزة الأساسية لأمن الخليج في المنطقة.
- كيف تأثرت منطقة الخليج بالغزو الروسي لأوكرانيا؟
- أوكرانيا تطالب بـ”محادثات عادلة”، وترامب يقول إنه يمتلك القوة لإنهاء الحرب
- لماذا اختار ترامب السعودية مكانا للقاء نظيره الروسي؟
🛈 تنويه: موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً أو مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.