هل آمن المصريون القدماء بـ “إله واحد أحد” قبل الأديان السماوية؟

أخناتون

Getty Images
نقش غائر للملك أخناتون وزوجته نفرتيتي يتعبدان لقرص الشمس، من عصر الأسرة الـ 18

“أيها الإله الأوحد، الذي لا شبيه له، خلقت الدنيا كما شئت عندما كنت وحدك، والناس والماشية الكبيرة والصغيرة وكل ما على الأرض يسعى على قدميه، وكل ما يرتفع (في السماء) ويطير بأجنحته”، مقتطف من تراتيل أخناتون التي تمثل نموذجا لنصوص دينية عديدة تركها المصريون القدماء، أسهمت في تسليط الضوء على المضمون الفكري واللغوي لفلسفة الفكر الديني في البيئة المصرية قديما بكل أبعادها الحضارية والتاريخية والإنسانية والروحية قبل ظهور الأديان السماوية بآلاف السنين.

ولا تزال الديانة المصرية مصدر حيرة لعلماء تاريخ مصر القديم نظرا للطبيعة المعقدة والمتشابكة لتكوينها الفكري، الذي امتزجت فيه الأسطورة بالرؤية الفلسفية في ظل متغيرات تاريخية وسياسية امتدت وتشعبت على مدار عصور، الأمر الذي ترك أثره في بنيانها، وجعل فهم هذا الفكر الديني يتسم بطابع فلسفي شديد التعقيد.

كان اعتقاد المصري قديما في وجود “قوة إلهية” كلية القدرة عنصرا أساسيا في فكره الديني، وقد أبرز بوضوح مفهوم “وحدانية الإله”، وسجّله مراراً في نصوص أدب الحكمة. إنه “إله” بدون مواصفات يتمتع بقدرات لا نهائية، ترسم بعض ملامحه مقتطفات مثل: “ليست إرادة الإنسان هي التي تتحقق، بل تدبير الإله (تعاليم بتاح حوتب)”، “كل من يفعل هكذا، سيمجد الإله اسمه (تعاليم آني)”، “الإنسان طين وقش، وصانعه هو الإله (تعاليم امنمؤوبي)”، “أدخلت السرور على قلب الإله لأني فعلت ما يجب (تعاليم من عصر الدولة الوسطى)”.

وهذا ما دفع العالم الفرنسي روبير-جاك تيبو في دراسته “معجم الأساطير والرموز المصرية” في مادة “إله (واحد)” إلى أن يقول: “قطعا لم يتجه ملوك مصر وشعبها بتعبدهم نحو مجموعة من الآلهة (الوثنية كما يعتقد البعض). بل على النقيض، عبدوا إلها واحدا، خالق الأرض: إنه إله صانع فخار، شكّل خلقه بالطين الصلصالي ومياه النيل، بعد ذلك نفث فيه من روحه”.

ويضيف: “على مدى ما يزيد على ثلاثة آلاف عام، كانت الطقوس الدينية تكرر، بلا ملل أو كلل، ذكر هذا العمل الخلّاق من خلال بعض الأساطير. وهكذا استطاع كل فرد مُطهر ومُطلع حديثا على الأسرار أن يعيش فترة تأسيس هذا البلد الذي أحبه الإله وعمل على حمايته”.

بدايات الفكر الديني

جدارية من مقبرة سننجم في دير المدينة

Getty Images
جدارية من مقبرة سن نجم في دير المدينة، في صعيد مصر، مشهد أمام الإله أوزير في العالم الآخر، من عصر الأسرة الـ 19

آمن المصري القديم بمجموعة من العقائد أبرزت تصوراته وتفسيراته للأشياء في الدنيا والآخرة، وهي تتعلق بتلك الصورة التي لابد أن يكون عليها الإنسان في حياته الدنيا، والتي بناء عليها تحدد مصيره في عالم الآخرة، ولذا، دأب على البحث عن حقيقة ما حوله من أسرار الكون وكيفية خلق الإنسان والأرض وبدء الحياة عليها، فضلا عن كونه أول من آمن بالبعث والخلود بعد الموت في حضارات الشرق القديم.

وسعى المصريون منذ العصور الحجرية إلى تأمل وفهم ما يحيط بهم في بيئتهم، بغية تفسير بعض الحوادث والظواهر الكونية المحيطة، والتي كان يصعب عليهم إدراك بعضها بخبرتهم المحدودة، الأمر الذي دفعهم إلى إعمال العقل الذي قادهم إلى حتمية وجود “قوة خفية” لها قدرة تفوق قدرتهم، وتستطيع التحكم في هذه الحوادث والظواهر المختلفة.

فقد تأمل المصري فيضان النيل وجفافه، وشاهد سقوط المطر وحدوث البرق، ولاحظ نمو النبات من الأرض وإثماره، فأيقن أن هذه “القوة الخفية” غير المرئية مؤثرة، بل ومتحكمة، في بيئته وفي الكون ككل، رغم عجز عقله عن إدراكها، وعينه عن رؤيتها، فبدأ التفكير في ماهية هذه القوة، وطبيعتها: هل هي قوة للخير أم قوة للشر؟ فاختلط العقل بين اتجاهين، اتجاه دفعه إلى التقرب من بعضها، وآخر إلى الحذر منها.

“تعدد الآلهة، لماذا؟”

جدارية تمثل كاتب الملك روي وزوجته نبتاوي يقدمان القرابين داخل مقبرة روي في الأقصر من عصر الأسرة الـ 18

Getty Images
جدارية تمثل كاتب الملك روي وزوجته نبتاوي يقدمان القرابين داخل مقبرة روي في الأقصر من عصر الأسرة الـ 18

إيمان المصري القديم بوجود قوة خفية في بيئته دفعه إلى خلق وسائل تواصل مع هذه القوى، بعد أن حدد دلالة بعض الظواهر والكائنات التي تتمتع بقدرات تفوق تصوره، فتقرب إلى الشمس والسماء لأنهما تحملان له الخير، وتقرب من ظواهر تحمل له الضرر (كالبرق) أملا منه في دفعه.

وبنفس المنطق تصوّر مصدرا للخير في بعض الحيوانات (كالأبقار)، وتصوّر مصدرا للشر في بعضها الآخر (كالثعابين والعقارب)، وأظهر تبجيلا لبعض الطيور (كالنسور والصقور)، ومن هذا المنطلق بزغت فكرة “التقديس”، التي كانت لبنة أولى في رسوخ العقيدة في مصر القديمة على مدى عصورها التاريخية.

لكن حدث خلط لدى كثيرين دفعهم إلى طرح سؤال عن سبب “عبادة” المصري القديم للحيوانات والطيور وغيرها، وعما إذا كان قد عبدها لذواتها، أم لأنها تمثل قوى خفية تفوق قدرته الفكرية المحدودة في أولى مراحل حياته على أرض مصر؟

يجيب العالم المصري عبد الحليم نور الدين، أستاذ تاريخ مصر القديم، في دراسته “المعبودات” عن هذا السؤال قائلا إن الشواهد تشير إلى أن “المصري لم يعبد هذه الموجودات لذاتها، وإنما على اعتبار أن القوى الخفية التي يدركها متمثلة فيها، وبكلمات أخرى فإن الموجودات التي عبدها المصري هي بمثابة رموز أرضية لهذه القوى الخفية التي لا تعيش معه على الأرض”.

ويضيف: “الدليل على أن المصري لم يعبد هذه الموجودات لذاتها هو أنه كان يذبح البقرة، ويقتل التمساح والثعبان، برغم أنها كانت رموزا لمعبودات قدسها على مر العصور”.

وفي ظل تطور الفكر الديني تصور المصري “إلها خاصا” لكل ظاهرة من الظواهر، واختلف مسمى هذا الإله أحيانا بين المناطق، كما أن إيمان المصري بوجود حياة أخرى بعد الموت، فضلا عن خوفه من بعض الظواهر وحبه لظواهر أخرى، أدى إلى تنوع وتشعب مسمياته للرموز المقدسة التي تمثل الإله الأكبر.

جدارية تعبد

Getty Images

ويقودنا ذلك إلى سؤال: هل عرف المصريون القدماء كلمة محددة للديانة، أو هل ما كانوا يمارسونه ويفعلونه هو ما نطلق عليه الآن “دين” أو “عقيدة”؟

يقول العالم رندل كلارك في دراسته “الرمز والأسطورة في مصر القديمة” إن المصريين القدماء “لم يعرفوا كلمة محددة للديانة، إذ لم يخطر ببالهم أن يكون الدين شيئا منفصلا عن الحياة، بل هو الحياة ذاتها بطقوسه وأساطيره، وما المعابد إلا مراكز تنبثق منها قوة الحياة، التي تستمر بشعائرها وطقوسها، فلم يكن ثمة انفصال بين الدين والدولة، فرأس الدولة – الملك – كبير للكهنة”.

ويضيف العالم الفرنسي بيير مونتيه في دراسته “الحياة اليومية في مصر في عهد الرعامسة” تأكيدا على نظرة المصريين للمعابد بوصفها مصدرا للحياة قائلا: “كان اهتمام المصريين بالآلهة والموتى يفوق إلى حد بعيد اهتمامهم بأنفسهم. وكانوا إذا شرعوا في تشييد معبد في مكان ما جلبوا له أشد أنواع الأحجار صلابة وأفضل أنواع المعادن والأحجار الكريمة وأجود أنواع الأخشاب، حتى لا تضارعه مبان أخرى في جماله وصلابته”.

ويقودنا العالم الفرنسي فرانسوا دوما في دراسته “حضارة مصر الفرعونية” إلى أن المصري قديما “أطلق لقب (نثر) على الإله، وكان يعرف أن هذه الأسماء الفردية لم تكن سوى مسميات متخصصة تعبر عن صفات قوة إلهية واحدة”.

ويطرح دوما سؤالا: “كيف كان يفكر البسطاء من أبناء الشعب وسواده ممَن لم يجدوا وقتا لإعمال العقل؟”، ويجيب أن “إيمانهم بتعدد الآلهة أو الأرباب، كان حقيقيا، أو هي بالنسبة لهم كيانات شخصية أو قدرات شخصية أو قوى فعالة ومؤثرة خاضعة لقوة عليا، ومع هذا كانوا ينسبون إليها صفات عديدة كانت تطلق في الأصل على هذه القوة العليا الخفية، لدرجة أنه يمكن إطلاق نفس هذه الصفات على معبودهم المحلي”.

“الإله الواحد الأوحد”

أوزير وآتوم

Getty Images
جدارية للإله أوزير (يسار) والإله آتوم، بالغرفة الجانبية الشرقية، مقبرة نفرتاريفي، وادي الملكات الأسرة الـ 19

لم يتفق علماء الدراسات المصرية، لاسيما علماء اللغة المصرية القديمة، على معنى محدد وواضح لكلمة “نثر”، وهي الكلمة المفتاح في تحديد تصوّر المصري لفكرة “الإله المعبود”، وهو ما دفع العالم المصري رمضان عبده علي، أستاذ علم دراسات تاريخ مصر القديم، في دراسته “حضارة مصر القديمة” إلى تحديد ثلاثة مفاهيم رئيسية للكلمة ودلالتها في الفكر الديني قديما بناء على مراجعة لغوية للعديد من النصوص الدينية.

أول هذه المفاهيم أن كلمة “نثر” تشير إلى المعبود (أو الإله المطلق) و(الإله الخالق) في فكر أهل التوحيد. إنه المعبود المطلق، غير المرئي، والمبهم، ولا يحده مكان ولا زمان، أي لا يمكن تحديد شكله وسماته ولم ترتبط عبادته بمكان محدد.

ويقول عبده علي في دراسته: “برز هذا المفهوم في بعض نصوص الحكم والنصوص الدينية الخاصة بأناشيد الوحدانية والنصوص الخاصة بالتراجم الشخصية. وكان هذا المعبود يتمتع بتقدير وتقديس كبيرين، ومهابة”.

ويلفت الفرنسي فرانسوا دوما في دراسته المتخصصة بعنوان “آلهة مصر” إلى أنه “كلما وجدنا نصوصا أكثر صراحة تتيح لنا أن نزيد معرفة بلاهوت أحد الآلهة المحليين ممن اكتسبوا بعض الأهمية، وجدنا أنها تطلق عليه صفة (الأوحد)”.

ويضيف: “يوجد نوع من الأدب هو أدب الوصايا الأخلاقية (الحكمة) التي يرجع أقدمها إلى الدولة القديمة، أبدى العالم دريتون منذ زمن بعيد رأيا بأن تلك التعاليم لم تذكر على الإطلاق، إذا صح القول، أسماء (جماعة الآلهة)، ولكنها تحدثت على الدوام عن الإله الواحد، بوجه عام. فكيف يجب فهم هذا اللفظ؟ أجاب دريتون بأن المقصود هو (الله) وذلك في مذهب التوحيد عند الحكماء”.

المفهوم الثاني، بحسب رأي عبده علي، أن الكلمة تشير أيضا إلى المعبودات (أو الآلهة أو الأرباب) بصفة عامة، والتي أطلقوا عليها عدة أسماء وألقاب وصفات واتخذوا لها أشكالا وصورا ورموزا واسبغوا عليها مختلف الأدوار في حياة البشر والخليقة. أما المفهوم الثالث أن الكلمة كانت تشير أيضا إلى صفة القداسة بوجه عام، وكانت تُطلق على بعض الملوك وبعض الأشخاص والرموز وبعض الأماكن، وهي تسبغ على ما تُطلق عليه معاني القداسة والتبجيل والاحترام.

روي وزوجته

Getty Images
جدارية تمثل كاتب الملك روي وزوجته نبتاوي يقدمان القرابين داخل مقبرة روي في الأقصر من عصر الأسرة الـ 18

ارتبط مفهوم “الإله المطلق” و”الخالق” غير المرئي في نصوص أُطلق عليها نصوص الوحدانية، وهي نصوص مهمة موجهة إلى “رموز مقدسة” كلها كناية عن الخالق، بأدوار هامة في عملية الخلق والخليقة، مثل “رع” و”آتوم” و”خبري” و”آتون” و”آمون” و”خنوم” و”بتاح” و”نيت” و”محت-ورت”، وجميعها تتشابه في القدرات التي أُعطيت لها.

ويقول عبده علي في دراسته إن هذه المعبودات “ترمز إلى قدرات وأعمال الخالق الواحد وإن اختلفت في الأسماء والصور والأشكال، ويتضح هذا من الأسماء والنعوت التي أُطلقت عليها مثال: (الموجود (خِبْري) “الذي جاء إلى الوجود من نفسه”، “والإله الأكبر الذي جاء إلى الوجود من نفسه”، و”الصانع لنفسه لا أحد يعرف أشكاله”، و”الأول الذي جاء في الأصل في الوجود”، و”الذي جاء إلى الوجود في البداية”.

وفيما يلي بعض النصوص الدالة على مفهوم الإله الواحد المطلق أو المجرد أو “المعبود الكبير المبهم” غير المرئي، خالق كل شيء، كما وردت في العديد من النصوص الدينية المصرية القديمة من عدة مصادر.

يورد عبده علي في دراسته “تاريخ مصر القديم” نصا من تعاليم موجهة إلى الوزير كايجمني من الأسرة الرابعة: “لا تتفاخر بقوتك بين أقرانك في السن، كن على حذر من كل إنسان حتى من نفسك، إن الإنسان لا يدري ماذا سيحدث أو ما الذي سيفعله الإله عندما ينزل عقابه”.

ويضيف من تعاليم بتاح حوتب من الأسرة الخامسة : “إن ما أراده الإله سوف يتحقق، إذا عزمت أن تحيا بالقناعة أتاك ما قدّره لك، والرزق مرتب بإرادة الإله، والجاهل من يعترض على إرادته”.

نقش غائر لوجه رجل

Getty Images

وتورد العالمة الفرنسية كلير لالويت في دراستها “طيبة أو بزوغ إمبراطورية” نصا عن ضرورة أن يكون المرء كريما لكي يكون الإله المطلق كريما معه أيضا: “إذا حرثت، فليكن حقلك مزدهرا، فليعطك الإله بوفرة، لا تتباه كثيرا بذلك، لذا لا تطالب الفقير بشيء”.

وتضيف لالويت نصا آخر في نفس الدراسة :”لا تشيع الرهبة بين الناس وإلا سيعاقبك الإله بالمثل، إذا ظن إنسان أنه قد يعيش بهذا الأسلوب فسوف يُحرم فمه من الخبز. لا تسمح بأن يظهر الخوف من الناس. فمشيئة الإله هي التي لا بد أن تظهر”.

وتورد نصا من تعاليم خيتي الثالث لابنه مري-كا-رع من الأسرة العاشرة: “أما المتمرد فسوف تنكشف مآربه لأن الإله يعرف الإنسان صاحب القلب الخسيس، وينزل الإله عقوبة الدم بالأفعال السيئة”.

ويورد فرانسوا دوما في دراسته “حضارة مصر الفرعونية” نصا يقول :”عندما لا تتحقق تكهنات البشر فأمر الإله هو الذي ينفذ. لا تمسك يدك عن البذل من ثروتك، فما تملكه إنما هو هبة من الإله”.

ونضيف نصا نقله عبده علي في دراسته “حضارة مصر القديمة” سجله العالم المصري أحمد فخري في دراسته بعنوان “مصر الفرعونية” موجها كلامه للملك :”أحكم الناس كأنهم رعايا الإله، لأنه خلق السموات والأرض كما يريدها الناس، إنهم صوره الشخصية التي صدرت عنه، وهو يصعد إلى السماء طبقا لرغباتهم وطبقا لطلبهم، فهو يخلق الفجر، ويبحر لكي يذهب إلى زيارتهم، وعندما يبكون فهو يسمع بكاءهم، وهو الذي خلق لهم الحشائش، والماشية، والطيور، والأسماك لكي يغذيهم، إنه يعرف كل واحد باسمه”.

ترنيمة أخناتون ونصوص التوحيد

نقش للملك أخناتون وزوجته نفرتيتي وأطفالهما، يتوسطهما قرص الشمس بأذرع أشعته الباعثة للخير والحماية، تل العمارنة، عصر الأسرة الـ 18

Getty Images
نقش للملك أخناتون وزوجته نفرتيتي وأطفالهما، يتوسطهما قرص الشمس بأذرع أشعته الباعثة للخير والحماية، تل العمارنة، عصر الأسرة الـ 18

وردت العديد من الأسماء والصفات الدالة على “الإله الواحد المطلق” في عدد كبير من النصوص المصرية منذ عصر الدولة القديمة وحتى العصر البطلمي-الروماني، وتعد ترنيمة الملك أخناتون، أمنحوتب الرابع، من الأسرة 18، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم، تحديدا أول ترنيمة متكاملة في منظومة نصوص الوحدانية، والإله (المعبود) الواحد الأحد، بحسب كثير من العلماء، وهي ترنيمة نظمها الملك شخصيا متأثرا بفكر ديني أعمق، فيها يرمز الملك إلى الإله المعبود “آتون” برمز قرص الشمس، ويشبهه بقدرة الإله الخالق الواضح للعيان في أحد تجليات خلقه ورموزه اليومية، وصاحب الظهور الأبدي.

ورأى أخناتون أن الكوكب من صنع الخالق وأن الأشعة المتفرقة التي تنزل من قرص الشمس ما هي إلا أذرع مقدسة تحمل الخير والحياة إلى الكائنات كلها، وهو ما جعل أخناتون لم يرغب في تصوير رمز أو هيئة مادية لهذا الإله، بل رمز إليه بقرص الشمس الذي يراه الكل، وأشعتها التي تسطع يوميا ويستمتع بها الجميع ويعيش كل كائن بفضلها.

ونورد مقتطفات من نص الترنيمة نقلا عن دراسة العالمة الفرنسية كلير لالويت “نصوص مقدسة ونصوص دنيوية”، المنشورة ضمن سلسلة منظمة اليونسكو لنماذج الفكر العالمي، إذ تقول لالويت، في المبحث الخاص بـ “الشعر المقدس والترانيم إلى الآلهة”، إن الترنيمة تُعرف اصطلاحا باسم الترنيمة الكبيرة إلى آتون، وهي منحوتة في تل العمارنة في مقبرة الملك “آي”:

“إنك تشرق برفق في أفق السماء، أيها القرص الحي، الذي يتحكم في الحياة، وبينما تظهر في الأفق الشرقي، وبعد أن تملأ البلاد قاطبة بكمالك، فأنت جميل وعظيم وتسطع، وقائم فوق الأرض في كامل امتدادها، إن أشعتك تغطي جميع البلدان وحتى حدود كل ما خلقته”.

“عندما تبيّض الأرض (من جديد)، بينما تشرق في الأفق، فإنك تتألق، يا آتون أثناء النهار، إنك تُبدد الظلمات، وتهب أشعتك، ويتهلل القطران فرحا. (النائمون) يستيقظون، وينتصبون على أقدامهم، لأنك تجعلهم ينهضون، ويغسلون أبدانهم، ويتناولون ثيابهم، بينما يسبّحون ويهللون بأيديهم عند ظهورك المتألق”.

“أنت واهب خصوبة المرأة، وتخلق النطفة في الرجال، وتعطي الحياة للابن في بطن أمه، وتسكّن روعه وتجفف دموعه، فتمد (الابن) بالغذاء وهو لايزال في بطن (أمه)، واهبا الهواء لحياة المخلوقات جميعا. وعند نزول (الطفل) من بطن (أمه)، يوم ولادته، فإنك تفتح فمه وترزقه باحتياجاته”.

“ما أكثر أعمالك! إنك تتوارى (أحيانا) عن الأنظار، أيها الإله الواحد المتفرد، فبجانبك لا آلهة سواك. لقد جبلت الأرض حسب رغبتك. بينما كنت بمفردك، كما (جبلت) البشر والأنعام من ماشية وأغنام، وكل ما يمشي على الأرض، وكل ما يحلق بجناحيه …، إنك تحدد لكل إنسان مكانه، كما ترزقه باحتياجاته، ليحصل كل واحد على قوته، ويقدر له زمن حياته”.

أخناتون يتعبد لقرص الشمس

Getty Images
نقش للملك أخناتون وهو يتعبد لقرص الشمس آتون، تل العمارنة، عصر الأسرة الـ 18

وتقول لالويت: “منذ عصر أمنحوتب الثاني، كان التوحيد مع تعدد الأشكال، تصوّرا موغلا في القدم في الفكر الديني المصري، عند معالجة موضوع الألوهية، وتأسيسا على ذلك فإن كلمة (نثر) أي (الإله/المعبود) أو (الله) المستخدمة عند وصف الكيان الإلهي الأسمى، استعملت في أقدم النصوص المعروفة”.

كما انعكست هذه الكلمات المعبرة عن الوحدانية في نصوص أخرى مصاحبة للرموز المقدسة كناية عن الخالق، ففي أنشودة للرمز المقدس أوزير في المتحف المصري يُقال فيها، نقلا عن دراسة عبده علي “حضارة المصريين القدماء مهد الرسل والرسالات وأرض النبوءات”: “أنت الأب والأم للناس، إنهم يعيشون في نسماتك، إنهم يأكلون الطعام بفضلك”.

كما ورد في بردية ليدن رقم 1350 من الأسرة التاسعة، ترنيمة تؤدى أثناء طقوس للرمز المقدس آمون-رع كناية عن الخالق: “أيها الصانع لنفسه، لا أحد يعرف الأشكال، كامل الهيئة، الذي ظهر في وجود رفيع، الذي شكّل الصور، ووُلد من نفسه، القوة الكاملة الذي يجعل قلبه مكتملا … كنت واحدا … الأول الذي جاء إلى الوجود، عندئذ لم يكن موجودا أي شيء أيضا”.

ويقول العالم الفرنسي بول بارجيه في دراسته “كتاب الموتى للمصرين القدماء”، المعروف باسم كتاب الخروج إلى النهار: “ليست الديانة المصرية القديمة بدقة عبارة عن تعدد الآلهة، إنها (إيمان بإله واحد بوجوه مختلفة)، إله يمكن أن يكون معبودا تحت اسم ما، أو شكل ما في مكان ما، أو باسم آخر وبشكل آخر في مكان آخر”.

وتوضح لالويت: “كان آمون يُعبد في طيبة، وأوزير في أبيدوس، وبتاح في منف، وتحوت في هرموبوليس، وخنوم في إلفنتين … ولكن جميعها تجليات محلية لكيان إلهي (واحد). إن كلمة (نثر) تشملها جميعا. وكل شكل من أشكالها، كان الواحد المتفرد في قلوب المؤمنين به وفي عقولهم، وهو ما سبق وأن لاحظناه عند قراءة النصوص المصرية”.

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.