متحف التاريخ في باكو – أذربيجان يحكي رحلة شعب عبر العصور
والقصر بحد ذاته تحفة معمارية فريدة، أقامها بارون النفط والخير تقييف (1823 -1924) في هذه البقعة من باكو في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد كان تقييف مقاولاً بالغ الذكاء والثراء أصبح من رجالات المال والأعمال الكبار في أذربيجان في ذلك الوقت، وكان راعياً للعلوم والفنون وأعمال الخير، ولشباب أذربيجان الموهوبين لتلقي تعليمهم في الخارج، وأنشأ أول مدرسة للهندسة الزراعية في بلاده عام 1894، وأول مسرح عام 1883، وأول مدرسة للبنات عام 1901، كما أنشأ خط أنابيب لنقل المياه إلى باكو عام 1917.
المتحف أو القصر منذ اللحظة الأولى يأسر زائره، ولا يتركه يبرحه قبل أن يقف على كل محتوياته ومقتنياته التي تجعل الزائر يسافر في رحلة عبر آلاف السنين مع هذا الشعب وحضارته على أرض أذربيجان بتشابكاته وتجاذباته وتفاعلاته مع محيطه القريب والبعيد، فأذربيجان أمة حية نابضة منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، وكما يشير كتاب مختصر تاريخ أذربيجان للدكتور محمود إسماعيل والصادر بالتعاون مع مركز جمعة الماجد بالإمارات العربية المتحدة، ومركز الدراسات الإسلامية في باكو (إرشاد)، فقد أثبت علم الآثار أن الإنسان البدائي سكن أذربيجان منذ العصر الحجري القديم، وقد شهدت أذربيجان نشوء العديد من السلالات الملكية والدويلات والدول.
وكانت أذربيجان تسمى بلاد آس أو ديار رجال آس أو بلد آسار نسبة لطائفة آس التركية التي سكنتها، في حين يعتقد البعض أنها تتكون من كلمات آذر بمعنى النار وباي تعني الأراضي الغنية بالثروات وجان معناها ذات السمو والاحترام والعزة، لكن فريقاً من الدارسين يشيرون إلى أن أذربيجان اسم لإحدى المناطق التي خضعت لمملكة الأخامنيين الفارسية وهي منطقة أطروبات جنوب أذربيجان التي تطور اسمها مع الزمن إلى أطروباتينة وأطروباتاغان، وهكذا حتى صارت تنطق أذربيجان.
وقد اكتشف قرب نهر قوروتشاي في أذربيجان في كهف أزيخ عظام ذقن مع ثلاثة أسنان لفتاة عمرها بين 18 و19 سنة الأمر الذي يدل على مساكن بشرية كانت هناك، وهي إحدى المناطق السكنية الأربع المكتشفة على الأرض. كما اكتشف علماء الآثار مساكن أخرى للإنسان القديم في أذربيجان وقد ترك الإنسان الأول رسوماً على الصخور في منطقة أبشيرون، وعلى صخور جاميقايا في ناخجيوان القديمة، وفي مختلف نواحي منطقة كالباجار.. وغيرها، وهي نقوش تعود إلى العصر الحجري، وقامت على أرض أذربيجان تشكيلات بشرية ووحدات طوائف في أواخر الألف الثاني وأوائل الألف الأول قبل الميلاد أغلبها محلية الأصل عاشت فيها منذ القدم، ويعتقد بعض المؤرخين أن الأجداد الأوائل لهذه الطوائف التي تتفاهم بإحدى اللهجات التركية كانت مجاورة للسومريين الذين سكنوا الأراضي الغربية من قارة آسيا ويشار في بعض المخطوطات إلى وجود طائفة التروكيين قرب بحيرة أورومو، ويعتقد أن هؤلاء هم الأجداد القدماء للطوائف التي قطنت أذربيجان وتكلمت التركية فيما بعد، وكان إلى جانب هذه الطوائف طائفة ساك ماساحيتيون انتقلت إلى أذربيجان منذ القدم من آسيا الوسطى، وكانت أكثر عدداً احتلت جزءا كبيراً من الأراضي في المئة السابعة قبل الميلاد.
وفي القرن الرابع قبل الميلاد نشأت في أذربيجان دولتان دولة الأطروباتينة في الجنوب ومملكة ألبانية في الشمال، ضمت الأولى الأراضي الحالية لأذربيجان الجنوبية وكردستان الإيرانية، وكانت الطوائف التي تسكن كل من أطروباتينة وألبانية ذات عقائد وعادات وتقاليد دينية خاصة بها بدأت تتحول مع الزمن وبعد انضمام وحدات الطوائف إلى عقائد لجميع السكان، وقد كشف عنها علماء الآثار من خلال التماثيل والأواني التي تحمل صور الشمس والقمر وبعض الحيوانات وصورا لعازفين وجماعات الراقصين. ومن خلال رسومات على الصخور في أبشيرون وكوبستان وكاميقايا، انتشرت في أذربيجان من قبل عبادة الحيوانات المختلفة والشمس والمقمر والأصنام ولكن الديانة الرسمية السائدة كانت الزرادشتية القائمة على تقديس النار وعبادتها والإيمان بكتابها المقدس “أويسستا” أو “أفستا”، وتحول الألبانيون من عبادة الأصنام في القرن الرابع إلى عبادة القمر والكواكب، ثم دخلت المسيحية ألبانية وصارت دين الدولة الرسمي، وبنيت أول كنيسة في مدينة قبلة ثم غدت ولاية أرساخ الألبانية (قارباخ اليوم) إحدى مراكز المسيحية.
وفي مطلع القرن السادس الميلادي نشأت دولة الشروانيين في المنطقة الشمالية من أذربيجان، ويطلق المؤرخون اسم شيروان على أراضي ألبانية الواقعة على الساحل الغربي لبحر الخزر (قزوين) شرق نهر كور حتى ضفاف نهر آغسو، وفي ذلك الوقت حصلت مملكة شكى على استقلالها جنباً إلى جنب مع مملكة شيروان.
وقد بدأ دخول الإسلام إلى أذربيجان في وقت مبكر في عهد الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه، وقد أدى انتشار الإسلام في المنطقة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في صفوف الشعب الأذربيجاني الذي كان يضم في ذلك الوقت أطروباتينة وألباني.
ومنذ القرن التاسع الميلادي بدأت بعض المدن الأذربيجانية بالنهوض والازدهار والاتساع، وفي القرن العاشر برزت عدة مدن منها أردبيل، سراب، ميانة، خونة، جبروان، تبريز، مراغة، برزاند، موغان، سالماس، خوي، ناخجيوان، مارند، أهار، باردا، بيلاقان، كانجا، شامكير، خونان، شكي، مباركي، قبلة، بارديج، شيروان، خسروان، لايسان، نيال، كيردمان، شابران، دربند ، باكو.
وفي القرن الثاني عشر تطورت المدن الأذربيجانية إذ كانت هذه المدن كلها مراكز مهنية وتجارية وثقافية وتطورت ثقافة الأذربيجانيين، وظهر علماء في شتى المجالات في علوم الطب والفلك والجغرافيا والتاريخ والفلسفة والفن والموسيقى والرسم والشعر، ومن أبرز شعراء هذه المرحلة وأدبائها نظامي كانجوي وخاقاني وفلكي شيرواني ومجير الدين البيلاقاني وماهساتي هانم.
ومن علماء أذربيجان ضياء الدين حسن أوغلو ونصير الدين الطوسي الذي أشرف على بناء مرصد مراغة عام 1259، وفي تبريز تأسست دار العلاج أوائل القرن الرابع عشر الميلادي، وقد ضمت الدار مؤسسات علمية وتعليمية وعلاجية وألحق بها مكتبة كبيرة يتعلم بها نحو 7 آلاف طالب وظهرت أسماء لامعة في تلك الفترة أمثال محمود شابوستاري في الفلسفة وفضل الله رشيد الدين ومحمد ناخجيواني في التاريخ.
كل هذه المراحل التاريخية يجد الزائر لمتحف التاريخ الوطني والحضارة بقصر تقييف في باكو آثارها من حفائر ورسومات ونقوش وأدوات صيد وملابس ومنسوجات وحلي وأدوات قتال وعملات وأثاث وعمارة وفنون وأدوات موسيقية.
Comments are closed.