الجميّل يروي فصولاً من علاقته بالشيخ صباح: رجل كبير ضحّى من أجل بلدنا… واللبنانيون لن ينسوه
- تعرّفت إلى الشيخ صباح خلال زيارات الأمير جابر لدارتنا في بكفيا
- تَعامَلَ الشيخ صباح مع «العصفورية» اللبنانية برحابة صدر وحكمة وذكاء وطول بال
- نحتاج لمجلّدات للكلام عن علاقة سمو الأمير الراحل بالقضية اللبنانية
- ترؤس الشيخ صباح للجنة العربية السداسية أسّس لاتفاق الطائف
تختزنُ العلاقةُ بين لبنان والكويت قِيَماً إنسانيةً ووجدانيةً، تتجاوزُ في عُمْقِها وأهميتِها ودلالاتِها «المصلحةَ المشتركة» التي تَرسم الحدودَ في العلاقة بين الدول وشعوبها… ربما هو التشابُهُ بين الوطنيْن في الجغرافيا والجيرة، وبين الشعبيْن في مَفاهيمَ كالحرية والحداثة.
لم تعرف العلاقةُ اللبنانية – الكويتية أيّ انتكاسةٍ من النوعِ الذي يمسّ بالجدلية الراسخة بين «اليد البيضاء» في السياسة والإعمار والتنمية التي شكّلتْها الكويت، وبين «القلب الكبير» الذي احتضن على مرّ العقود الرعايا الكويتيين، وبيوتاتهم في ربوع «بلاد الأرز» وساهَمَ في النهضة الكويتية.
ولم يكن سمو الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، سوى تجسيد لهذه الاستثنائية الكويتية الناصعة في العلاقةِ مع لبنان، منذ أن كان وزيراً للخارجية ويوم تُوِّجَ أميراً، ما جَعَلَ لبنان «يُجْمِعُ» على رثائه بحزنٍ، وهو الذي يصعب أن يَجْتَمِعَ على شيءٍ في السراء أو الضراء.
لم يكن عادياً أن اللبنانيين على اختلافهم وخلافاتهم، شعروا أنهم برحيل «أبو ناصر» خسروا شيئاً منهم، وهو الذي عَرَفَ بلادهم عن «ظَهْرِ قلْبٍ» لشدّة ما لعب أدواراً لـ«إخماد» حروبهم، أو الحروب بهم، أو الحروب عليهم، كـ «صانِعِ حلولٍ» تُوِّجَتْ باتفاقِ الطائف العام 1989.
في شهادةٍ شخصيةٍ على علاقةِ سمو الأمير الراحل الـ «ما فوق عادية» بلبنان، وفائض حرْصه عليه، ووقوفه الدائم إلى جانب قضيّته، روى رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل لـ «الراي» فصولاً من تلك الأدوار التي تَحْفظها الذاكرةُ اللبنانيةُ بكثيرٍ من المودّة والعُرفان بالجميل.
أمين الجميل، ابنُ العائلة السياسية العريقة، التي ارتبط اسمها بـ «حزب الكتائب» وأَنْجَبَتْ رئيسيْن للجمهورية (بشير وأمين)، كان في كَنَفِ والده الشيخ بيار، عندما عرف سمو الأمير الراحل، قبل أن يتشاركا معاً في الهمّ اللبناني وهموم العرب حين صار الجميل رئيساً للجمهورية (1982).
وفي استعادةٍ لشريط الذكريات قال فخامته: «نحن كآل الجميل، تربطنا علاقةٌ قديمةٌ جداً بآل الصباح، بدأت مع سمو الأمير المغفور له الشيخ جابر الأحمد الصباح، وتطوّرتْ لتصبح مع غالبية أركان الأسرة الحاكمة في الكويت، وهي انتقلت من والدي الشيخ بيار مع الأمير جابر إلى علاقة صداقة مع الشيخ صباح».
وتحدث عن أن الشيخ صباح الأحمد «كان في بداية عمله السياسي، حين كانت الأسرة الكريمة تتردّد إلى لبنان باستمرار، وتعقد لقاءات أحياناً في منزلنا في بكفيا… فالوالد كان يحرص على استضافة الأمير جابر، ومعه بعض أفراد الأسرة في منزلنا الجبلي».
هكذا بدأت العلاقةُ بين الرجلين قبل «أن تتطوّر وتصبح شخصيةً، وهي توطدت خلال الحرب اللبنانية، ومع انتخابي رئيساً للجمهورية، حيث أصبح الشيخ صباح وزيراً للخارجية»، لافتاً إلى «اجتماعاتِ عمل كانت تُعقد مع الشيخ صباح، كونه كان مهتمّاً بالقضية اللبنانية، وتطوّراتها الإيجابية والسلبية».
وحرص الرئيس الجميل على القول إن «الشيخ صباح كان يَعتبر لبنان وطنَه الثاني، وكان يعنيه كثيراً الشأنُ السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان… هذا ما كنتُ أشعر به خلال لقاءاتنا المتكررة في الكويت، وكان لسموّه أيادي بيضاء في مجالات الإنماء في لبنان، إذ ساهم في إنشاء وتطوير مجموعة من المشاريع، مثل الليطاني وسد القرعون، كما بعض البنى التحتية والطرق الرئيسية».
ويحفظ الجميل لسمو الأمير الراحل تأثُّره بكارثة مرفأ بيروت، التي وقعت في 4 أغسطس الماضي، وإعرابه عن رغبة الكويت بإعادة بناء إهراءات القمح التي خربها الانفجار، وهي التي كانت ساهمت الكويت في تشييدها في إطار تطوير مرفأ بيروت.
وبكلامٍ غَلَبَ عليه التأثّر، روى الرئيس الجميل انطباعاته عن اللقاء الأخير الذي جمعه بسموّه: «كان همُّه الوقوف على أوضاع الأطفال اللبنانيين المصابين بالسرطان، فكان لقاءٌ في الكويت مع لجنة رعاية هؤلاء الأطفال، برئاسة نورا جنبلاط، وكنت مُشارِكاً في الزيارة لسمو الأمير، الذي أظهر حماسةً في دعم هذا المشروع الإنساني… كان اجتماعاً مطولاً مع سموه، طُرحت فيه كل شاردة وواردة، وفي نهايته أوعز إلى المراجع المختصة بدعم مشروع رعاية الأطفال المصابين بالسرطان».
وأكد أن «سموه كان مهتماً بكل تفاصيل المشروع، المبنى، التجهيزات، العلاجات… كأنه معنيّ شخصياً بالأمر، وبالطبع كان اللقاء مناسبةً أيضاً للبحث في الشأن اللبناني، السياسي والاقتصادي، المتدهور»، لافتاً إلى أنه «رغم أن مَعالم التعب كانت ظاهرةً على بشائره، فإنه كان حاضر الذهن، يناقش أبسط التفاصيل ويُبْدي ملاحظاته في تعبيرٍ عن اهتمامه بهذه المأساة الاجتماعية، وبالوضع العام في لبنان… وهذا كان آخِر لقاء به قبل سفره للعلاج في الخارج».
ومن موقع التجربة المعاشة والعلاقة الشخصية، قال الرئيس السابق للجمهورية «إن الشيخ صباح لم يوفّر طوال حُكْمِه أيّ جهد للتخفيف من معاناة اللبنانيين، وخصوصاً من الناحية السياسية، حيث كان على تماسٍ مع كل المساعي العربية والدولية المتصلة بالشأن اللبناني».
ويذكر الجميل أنه «بعد نهاية ولايتي الرئاسية (1988) بقينا على تَواصُلٍ لمعالجة الشأن السياسي الوطني، وعندما انتقلتْ جامعة الدول العربية إلى تونس، تولى الشيخ صباح، وفي إطار الجامعة، مبادراتٍ عدة لمعالجة الأزمة اللبنانية، التي أخذت تتطوّر في شكل دراماتيكي.
عقدنا اجتماعات عدة في تونس، وترأس معاليه اللجنة العربية السداسية التي ضمت وزراء خارجية عرب آخَرين، لمساعدة لبنان والسعي لإيجاد حلول والدفْع في اتجاه المصالحة».
وبدا الرئيس الجميل وكأنه يقلّب دفتر الذكريات، حين تحدّث عن «أننا عقدنا اجتماعات مُضْنِيَةً ومُتْعِبَةً، وكان على الشيخ صباح أن يستوعب التناقضات اللبنانية، كي لا أقول أطباع القيادات اللبنانية الصعبة… تعاطى مع هذه الأمور الموضوعية والسيكولوجية بكل رحابة صدر وطول بال وحِكْمَة.
كانت المناقشاتُ في بعض الاجتماعات تأخذ طابع ما يعرف في لبنان بـ (العصفورية)، (وصف يُطلق على مستشفى الأمراض العقلية)، ولا سيما أنه كانت تتداخل في هذه المناقشات وتؤججها غرائز وطموحات غير محدودة للبعض، كما البُعد الإقليمي والصراعات الإقليمية التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الأزمة اللبنانية وتتقاذفها من جهة إلى جهة من دون رادع… كل ذلك تحمّله الشيخ صباح، بصفته وزيراً للخارجية ورئيساً للجنة السداسية، بهدوءِ أعصابٍ وتَرَفُّعٍ وحِكْمَةٍ وذكاء».
وفي تقدير الجميل، أن الشيخ صباح، في جِدّه وكدّه، هَنْدَسَ الاتفاقَ الذي أَسْكَتَ المدفعَ في لبنان، وأفْرج عن التسوية السياسية في البلاد «يمكن أن نعتبر أن أعمال اللجنة السداسية برئاسته، كانت باكورة اتفاق الطائف، الذي أسس للمرحلة الجديدة على الصعيديْن الدستوري والوطني في لبنان، فالمناقشات في تونس وما أفضت إليه شكلت المقدمة والأطر الرئيسية لاتفاق الطائف، وهذا ما يجهله أو يتجاهله البعض، والأمانة تقتضي إعطاء الشيخ صباح حقه في هذا الشأن».
وفي رأيه أنه «يمكن كتابة مجلدات حول علاقة الأمير الراحل بالقضية اللبنانية والشعب اللبناني، أكان على الصعيد الإنساني – الاجتماعي أو على الصعيد السياسي والعام.
ولا يمكن للبنان أن ينسى فضلَ هذا الرجل الكبير على مسار القضية اللبنانية ولا سيما في هذه الظروف الصعبة والبالغة الدراماتيكية التي يمرّ بها لبنان»، مؤكداً أنه «طيلة الزمن المديد من الأزمات، كان هناك أخ ضحّى في سبيل ما كان يعتبره وطنَه الثاني، ولن ينساه اللبنانيون أبداً».
وخلص الجميل إلى «أن ما يَجْمَع لبنان والكويت أنهما يتشابهان في تحدياتهما… هما بلدان صغيران ومن أصغر الدول العربية تقريباً، ويعانيان جغرافياً من صعوبات جمة، كالجيرة غير المُطَمْئِنة وغير المريحة.
ونعرف تماماً ما عانته الكويت مع العراق، والمغامرةُ العراقيةُ بحقها، شبيهةٌ بما يعانيه لبنان بِحُكْمِ موقعه الجغرافي وأطماع جيرانه المعروفة.
كما أن لبنان والكويت أطلقا، كل على طريقته مساراً ديموقراطياً ونظاماً للحريات فريد من نوعه في هذه المنطقة، ناهيك عن أن شعبيهما امتازا بفن التجارة والعلاقات الدولية، فالبلدان ذوا طموح إنساني مشترك. وكان الأمير الشيخ صباح، رحمه الله، يجسّد كل هذه التطلعات والمَشاعر في نظرته إلى لبنان».
وإذ بارَكَ الجميل لسمو الأمير الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، توليه سُدّة المسؤولية، قال: «إن الكويت محظوظة بهذا النوع من القادة»، مشيراً إلى أنه تعرّف إلى سموّه عندما كان ولياً للعهد خلال زياراته للأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد «فكان واضحاً أنه شخصيّة مميزة، مُلِمَّة بالقضايا العربية وحساسياتها، كما بقضايا الكويت»، مباركاً لسمو الشيخ مشعل الأحمد تزكيته ومبايعته ولياً للعهد.
الراي – وسام أبو حرفوش
Comments are closed.