مقدمة نشرة أخبار تلفزيون “أو تي في”
منذ أسبوع والمشهد الداخلي يتحرك على وقع وايقاع ما حصل في عاليه. لا أحد يتحدث عن الموازنة ولا أحد يحدد موعدا لانعقاد مجلس الوزراء، ولا أحد يأتي على ذكر النفايات، ولا أحد يجرؤ على كشف عدد الوفيات الناتجة عن السرطان والتلوث وحوادث السير والانتحار ونكبة المخدرات والتفلت الأمني والفلتان الأخلاقي والكذب في العالم الافتراضي، وكميات البخور التي تحرق أمام نواطير القبور وسادة القصور ومحترفي الفجور.
ملهاة جديدة يؤخذ بها اللبنانيون، كما فعل الامبراطور الروماني فيسباسيان حين بنى الكولوسيوم في روما للترفيه واسكات الناس وصرف أنظارهم عما تقوم به الامبراطورية في الخارج وفي الداخل. لكن ما حصل في عاليه ليس ملهاة بل مأساة: سقوط شهداء، تصدع الوحدة الداخلية، ترنح المصالحة، عودة الخطاب التخويفي، انبعاث الاقطاع بعد قليل انقطاع، احياء نماذج قديمة من الكانتونات والادارات الذاتية من دون استحياء. لكن الأخطر هو وضع هيبة الدولة على المحك، وجعلها موضع شك، واستحضار الشارع مقابل الشرعية والدويلة في وجه الدولة والجنون مقابل القانون.
ما يحصل منذ أيام يعكس بأمانة وواقعية المثل القائل: رضي القتيل وليس يرضى القاتل. تحول قطاع الطريق ضحايا وتحول سالك الطريق جلادا. سياسي ورئيس حزب ووزير ونائب يتهم بالاستفزاز لأنه شكر بلدة بطلة على تاريخها ووقفاتها التي حمت الشرعية والجمهورية وكل ذي نفس أبية، فتنطلق حملة ممنهجة من الابتزاز وهدرالمقامات ونحر الكرامات وبتر المصالحات على مذبح الزعامات.
ليست القصة زيارة أو جولة أو موقف. كل القصة ميشال عون. معه بدأت الحكاية ومعه تستمر الرواية. بعيدا عن التبسيط والتسطيح: جبران باسيل رئيس “التيار الوطني الحر”، والتيار هو ميشال عون ورئيس الجمهورية هو الذي وقع أول تفاهم مكتوب بين طائفتين، وهو الذي أجرى تسوية سياسية تاريخية مع شريك أساسي، وأول من حظي باحترام مكون مؤسس للبنان الكيان، وأول من أعاد أبناء جلدته ليس إلى الدولة بل إلى السلطة، وأعاد حضورا كريما لهم في مؤسساتها واداراتها وحكومتها وبرلمانها واغترابها من دون منة ولا صدقة ولا استتباع.
كل القصة بدأت معه، ومنذاك الحين بدأت متاعبه ولما تزل. الذين اعتادوا لوي الرقاب وثني الركاب والتسكع على الأبواب، هم أنفسهم الذين وضعوا شبابنا في المقابر أو دفعوهم إلى المهاجر، وثكلوا الأمهات، وكانوا أزلاما لمخابرات وسماسرة استثمارات ومتعهدي صفقات ومنفذي اغتيالات.
اليوم، ولسخرية الأقدار وسوء طالعنا ونحسنا، أن نستمع إلى رجال الدم يتلبسون سيمون بوليفار وبسمارك وبطرس الأكبر، لكنهم يشبهون أكثر بوكاسا وبينوشيه وستالين وعيدي أمين.
كل القصة ميشال عون من الألف للياء، ومن البداية للانتهاء، وما عدا ذلك تعمية والهاء. المعادلة السليمة سهلة: لا عيش مشترك من دون توازن ولا توازن من دون شراكة ولا شراكة من دون ندية، وما عدا ذلك شعارات وترهات ونفاق وكانتونات.
يروي الراحل عميد الصحافيين لويس الحاج عن الرئيس الأمير فؤاد شهاب، قبيل انتخابه رئيسا العام 1958، أنه سيضطر إلى مداراة فلان واعطائه ما يريد في عهده المقبل لاسكاته ودرء لسانه. ميشال عون لن يكرر ما فعله الأمير الكبير. هذه المرة التاريخ لن يعيد نفسه.
Comments are closed.