نساءٌ «يتحايلن» على الغلاء لحفْظ ماء الوجه وجَماله.. «الجميلة والوحش»… في لبنان

في المِحَن التي تصيب الشعوبَ، غالباً ما تكون النساء الأكثر تأثُراً بتداعياتها، يتحمّلن ثِقل أوزارها ويدفعن من وجودهن وحياتهن أغلى الأثمان.

نساء لبنان يعشن اليوم أصعب مرحلة في حياتهن، يرزحن تحت أعباء أزمة اقتصادية غير مسبوقة تهدّد مستقبلهن ومستقبل عائلاتهن وأبنائهن، ويواجهن تحديات يومية تمتدّ من أبسط التفاصيل إلى أصعبها.

تحدياتٌ تكاد تُنْسيهنّ وجودهنّ كنساءٍ وتُحَوِّل حياتهنّ صراعاً مستمراً للصمود. فهل يمكن القول إن «أسطورة الجمال» وهوس التجميل الذي رافقهنّ في العقود الماضية قد ولى واندثر في غمرة الأزمات أم لا يزال للجمال مكان في حياتهن ويومياتهن؟

في زمنٍ ليس ببعيد، كان لبنان عاصمةً للجمال وكانت بيروت مختبراً جَمالياً رائداً يتلقّف آخِر الابتكارات العالمية في مجال التجميل ليقدّمها للسيدات، لا كرفاهيةٍ عابِرةٍ يمكن العيشُ من دونها بل كواحدةٍ من أساسيات الحياة وركائزها بحيث بات لكل سيدةٍ جدولها الجمالي الأسبوعي والشهري الخاص تلتزم به كما تلتزم بواجابتها الأخرى العائلية أو المهنية والاجتماعية. لكن الأحوال تبدلت وتغيّرت أولويات النساء وهمومهنّ، واحتلّ العبء المعيشي قائمة اهتماماتهنّ. لكن يبقى السؤال: كم تراجع اهتمام اللبنانيات بالجمال؟ وهل ما زال التجميل يلقى صدى في يومياتهن؟

صورة متناقضة يصعب شرحها

نونا باز صاحبة مركز تجميل معروف في منطقة فردان الراقية وخبيرة التجميل التي اعتادت استقبال السيدات والعناية بجمالهنّ منذ أكثر من عقدين ترسم عبر «الراي» صورة متناقضة لواقع التجميل اليوم: فمن جهة ثمة حجوزات كثيرة جداً لكل العنايات التنحيفية قبل فصل الصيف، ومن جهة ثانية هناك تَراجُع واضح في الإجراءات التجميلية العادية التي تعوّدت النساء على القيام بها. كذلك ثمة اختلاف واضح بين السيدات المرتاحات إلى وضعهن المالي والقادرات على الإنفاق بالدولار الأميركي واللواتي لم يتأثر تعاملهن مع متطلبات العناية والتجميل، وبين الموظفات في المصارف والشركات اللواتي لا يزلن يتقاضين رواتبهن بالليرة اللبنانية وبتن يختصرن كثيراً في الإجراءات التجميلية اللواتي اعتدن سابقاً القيام بها. فالموظفة مثلاً لم تعد قادرة على دفع ربع راتبها لحجز بضعة جلسات تجميل وبات يتعذّر عليها القدوم أسبوعياً كما كانت تفعل سابقاً بل صارت تختار الأمور الأساسية فقط التي لا يمكنها الاستغناء عنها”.

وكأنّ التجميل قسّم الناس الى طبقات في لبنان، بعدما كان رفاهيةً مُعَمَّمَةً على الجميع. فسيدات الطبقة الوسطى بحسب ما يؤكد لنا بدوره المزيّن جو جبور يُسجَّل لهن غياب شبه تام عن صالونات التجميل إلا للقيام بما هو ضروري ولا مفرّ منه، حتى بتن يتصلن قبل قدومهن الى الصالون للسؤال عن الأسعار او يكلفن أحداً آخر القيام بذلك وغالبيتهن يتحجّجن بظروف «كورونا» والبقاء في البيت ليبررن غيابهن، فيما السبب الأبرز هو عدم قدرتهن على إنفاق جزء من راتبهن على أمور تختص بالمظهر.

ويقول المزيّن: «لم نعد نستغرب أن تدخل إلينا سيدةٌ لائقة المظهر وقد طالت جذور شعرها وغذّاها الشيْب أو تَداخَلَتْ الألوان في شعرها وبهتت، فيما كان من النادر أن تترك شعرها بهذه الحال، أو أن نرى مَظاهر كهذه في الصالون. كثيرات صرن يقصدن صالون التزيين لقصّ شعرهن أو صبْغه فقط، أما الزيارات الأسبوعية فقد انتهى زمنها حتى بالنسبة للسيدات المقتدرات. ويمكن القول إن نسبةَ الزبائن قد انخفضتْ إلى 10 أو 15 في المئة عما كانت عليه في أيام العزّ السابقة. الطبقة الوسطى التي كانت دينامو الحركة في البلد امّحت وتَغَيَّرَ معها مظهر النساء، وبات التزيين والتجميل والماكياج حكراً على بعض المناسبات الاجتماعية بكلفة متواضعة جداً».

ولبنان الذي شهد فورةً لصالونات التزيين ومَعاهد التجميل يشهد اليوم إقفالاً للعديد منها أو انتقالها إلى مواقع أصغر بإيجاراتٍ أقلّ وتكلفة تشغيل أدنى، وذلك في محاولةٍ للجمْع بين نقيضيْن: أي الاستمرار في العمل رغم ارتفاع تكلفة مواد التجميل والعناية، وتأمين متطلبات السيدات رغم انخفاض هامش الربح.

الأساسيات لا الرفاهية

أسعار الإجراءات التجميلية على أنواعها لم تلحق بارتفاع سعر الدولار ولم تَزِدْ أضعافاً كبقية السلع، بل شهدت ارتفاعاً مقبولاً يتيح لصنّاع الجَمال القدرةَ على الاستمرارية وشراء المستحضرات بالعملة الصعبة، ويسمح في الوقت نفسه للسيّدات بالاستمرار في الاهتمام بمظهرهن بتكلفة مقبولة. لكن هذا الارتفاع على ضآلته سبّب للكثيرات من النساء مشكلةً يصعب تخطّيها ولا سيما بالنسبة للأمور التي تُعتبر دلالاً ورفاهية بعدما كنّ قد اعتدن عليها في بعض الأوقات. فالحفاظ على تلك الطَلّة المميزة التي طَبَعَتْ جميلات لبنان ونسائه بشكل عام صار أمراً مُكْلِفاً بلا شك، لكن الاستغناء عنها ليس بخيارٍ، بل أصبح على النساء التعامل مع الإمر بذكاء وإجراء الحسابات اللازمة التي تتيح لهن الحصول على الخدمات الضرورية بتكلفة تناسبهنّ وتحْفظ لهن ماء الوجه وجماله.

صحيح أن مَن يُلْقي نظرةً في الشارع أو داخل الشركات والمصارف والمولات على النساء يمكنه أن يرى كيف تَغَيَّرَتْ أحوالُ اللبنانيات في يومياتهن، لكن في المقابل مَن يخرج إلى المطاعم أو المناسبات الاجتماعية يلاحظ بلا أدنى شك أن السيدة اللبنانية لا تزال تصرّ على أن تطلّ بأرقى وأجمل صورة وبالشكل الذي اعتاد الناس رؤيتها فيه.

«الخيارات تبدّلت»، تقول الاختصاصية نونا باز «ولكنها لم تَخْتَفِ، ولا سيما بالنسبة للطبقة الوسطى وبات التركيز على إجراءات التجميل الأساسية التي يدوم مفعولها لوقت طويل، أو على العنايات التي لم يرتفع سعرها بشكل كبير لا بل صار أقلّ من السابق. فجلسات الماكينات والأجهزة تكلّف اليوم أقلّ بكثير من السابق وقد تحوّل سعر مجموعة الجلسات مثلاً من 500 دولار أميركي الى 500000 ليرة لبنانية وهو تخفيض كبير يناسب النساء العاملات. أما العنايات التي تتطلّب مواداً ارتفع سعرُها بشكلٍ كبيرٍ، فقد صار بعض هؤلاء يتجنّبنها ويفضّلن الاستغناءَ عنها. لكن كل هذه الحسابات تنطبق على الموظفات والسيدات اللواتي ينلن رواتبهن بالليرة اللبنانية، أما الفئات الميسورة او التي تقبض»الفريش دولار«فهذه لا تزال تتصرّف كما اعتادت سابقاً من دون أن تسأل عن التكاليف وتساهم في الإبقاء على عجلة التجميل قائمة في لبنان».

من هنا يمكن القول بحسب إحدى اختصاصيات التجميل أن عمل أطباء الجِلْد والتجميل قد ازداد لأن السيدة صارت تفضّل أن تدفع ثمن إبرة بوتوكس أو حقنة فيلر يمكن ان يدوم مفعولها لسنة بدل أن تقصد معهدَ تجميلٍ للحصول على فايشال أو جلسة عناية بالوجه تتطلّب أن تشتري معها الكريمات الملائمة.

اختلاف في وجهات النظر

فريال خليل، سيدة في أواخر الأربعينات، أجابت بصراحة حين سألتْها «الراي» إذا كانت مستعدة للاستغناءعن «روتوش» التجميل إذا أجبرتْها الظروف على ذلك، فقالت إنها بلا شك تضع عائلتها وبيتها في قائمة أولوياتها والأجدى أن تؤمّن لهم كل ما يحتاجونه، لكنها تضيف أنها بحاجة لأن تبقى في نظر عائلتها السيدة الأنيقة المرتبة التي اعتادوا النظر إليها بإعجاب، ولذلك تحاول قدر الإمكان الحفاظ على هذه الصورة عبر إجراءات بسيطة التكلفة.

وصحيح أن فريال لم تعد تقصد معهد التجميل كالسابق، «لكن الحفاظ على أناقة الأظافر والشعر أمرٌ لا جدال فيه رغم ارتفاع سعر هذه الخدمات».

من جهتها ترفض غريتا التخلي عن الروتوش التجميلية عند طبيبها المعتاد وتقول لـ «الراي»: «في لبنان نعيش حالة من اليأس والقرف من وضع البلد وسياسييه. وجاءت جائحةُ كورونا لتزيدَ من بشاعة ظروفنا وتُطْبِقَ على أنفاسنا. ولذا لم يبقَ لنا سوى الجمال متنفّساً».

وتضيف: «لا يمكنني أن أهمل نفسي. فالتكلفة التي أدفعها للحفاظ على نضارة وجهي لن تتتسبّب بإفلاسي بل تبقى أقلّ من العبء المعنوي الذي يصيبني إذا نظرتُ إلى نفسي في المرآة ووجدتُ امرأةً مُتْعَبَةً يائسةً تنظر إليّ. وثمة مَثَلٌ لبناني يقول: أهِن فلوسك ولا تهن نفوسك…لا أحد يموت من الجوع إذا اعتنى قليلاً بنفسه».

غنوة نعمة، صبية تبيع مستحضرات تجميل متوسطة النوعية أسعار مقبولة جداً، تقول لـ «الراي» إن أعداد زبائنها من الشابات العاملات والمراهقات قد ازداد بنِسب كبيرة رغم الأزمة الاقتصادية لأن الأسعار التي تقدّمها في متناول الجميع. وبعدما كانت هؤلاء الشابات يقصدن المولات ومَحلات التجميل الكبرى والمعروفة لشراء ما يحتجن إليه من أدواتٍ ومواد تجميلٍ مختلفة كنّ قادراتٍ على دفْع ثمنها، صرن اليوم يبحثن عن المستحضرات الأقل تكلفة وأصبحن يختصرن في شراء المستحضرات وينتظرن العروض التسويقية فقط لشراء ما يحتجن إليه، ويخترْن مثلاً لوناً واحداً يمكنه أن يتماشى مع كل ملابسهنّ أو مستحضراً واحداً يحتجن إليه فعلاً”.

حتى العطور تَراجَعَ بيعُها بعدما باتت أسعارها تعادل نصف راتب أو أكثر من التي تفوق الحدّ الأدنى للأجور الذي لم تعُد قيمته تتجاوز 52 دولاراً بالكاد تكفي لشراء زجاجة عطر صغيرة وليس من كل الماركات. من هنا تقول غنوة «صار إقبال الشابات على العطور المعبأة محلياً التي تحاكي بروائحها العطور الأصلية كبيراً. وحتى بعض الذين يبيعون العطور المقلّدة قد ازدهرت تَجارتُهم».

وجهاتُ نَظَرٍ مختلفة تنبع ليس فقط من رؤية كل امرأة لنفسها، بل قبل أي شيء من حالتها المادية. وقد بات واضحاً أن المرأة اللبنانية القادرة على تَحَمُّلِ تكاليف التجميل ولو بحدّها الأدنى، ستحافظ على عاداتها ولن تتخلى عنها لكن دون تلك المبالغة التي اشتهرت بها في وقت من الأوقات. أما مَن انحدرتْ من الطبقة المتوسطة إلى الفقيرة وباتت تجد صعوبة في تأمين قوت عائلتها، فبشاعة الأيام التي تعيشها «بلاد الأرز» جعلتْ التجميلَ آخِر همومها، حتى بدا وكأن لبنان ونساءه أمام نسخة «متحوّرة» من قصة «الجميلة (اللبنانية) والوحش (الانهيار والغلاء)».

الراي – من زيزي اسطفان

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.