عوده: السجالات وتبادل الشتائم والإهانات لا تخرج البلد من المأزق

عزدة

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، قداس الاحد في كاتدرائية مار جاورجيوس للروم الارثوذكس في بيروت، في حضور حشد من المؤمنين.

وبعد الانجيل المقدس ألقى عوده عظة قال فيها:”عيدت كنيستنا المقدسة منذ أيام قليلة للظهور الإلهي، أي لمعمودية الرب يسوع، وللظهور الثالوثي الذي تم لحظة تلك المعمودية، حيث نطق الآب من السماء، وظهر الروح القدس على الإبن المعتمد من يوحنا في نهر الأردن. واليوم، في الأحد الذي يلي عيد الظهور الإلهي، نسمع الرب يسوع مناديا، وحاثا الجميع بقوله: (توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات). يكشف المسيح، في ندائه الأول هذا، أساس الحياة الروحية، التي تتولد في الإنسان بقوة الروح القدس، ومشاركة الإنسان نفسه. التوبة هي بدء الخلاص. فلكي يتقرب الإنسان من المسيح، هو يحتاج إلى القيام بتغيير جذري في داخله، يحتاج إلى تغيير توجهاته. عليه أن يقصي عن مركز اهتماماته ذاته الخاطئة، أي أنانيته، بكل رغباتها وأهدافها الخاصة، وأن يضع مكانها الله ووصاياه التي ينبغي أن تنتظم حياته بحسبها”.

أضاف: “الأمر الوحيد الذي لا يفعله الله هو أن يسكن في قلب غير نقي، وأن يتواجد مع الخطيئة. الله حر في جوهره، وهو يسكن في القلوب التي تتقبله بحرية وتهيىء له مكانا. الله لا يفتقد الإنسان افتقاد المتسلط، بل يريد حريتنا، ويكرم سيادة نفسنا فوق القياس.أما الطغيان والضغط فهما من روح آخر، روح ذاك الذي أخرجنا من الفردوس بغش، أي الشيطان، ولم يتوقف عن إستغلال تقلقلنا وضعف إرادتنا بشره. لذلك التوبة التي هي ثمرة حريتنا، هي انتصارنا على الشيطان، وشرط دخول المسيح فينا. وحده من ذاق مرارة الخطيئة يمكنه أن يتوب، أما من بقي مأسورا بلذة الخطيئة فلا يستطيع أن يتوب توبة حقيقية. تعلمنا خبرة القديسين التي تنير كنيستنا أننا لا نقدر أن نعرف الخطيئة التي تشوه نفسنا إلا إذا أنارتنا نعمة الله. فما دامت أنفسنا مظلمة، تبقى الخطيئة مالكة عليها بحال خفية. لكن، ما إن يفتقدها شعاع من نعمة الله، حتى تنكشف دناءة أهوائها. هذا يعني أن التوبة تنشأ في داخل الإنسان بتدخل الله أولا، (لأن الله يريد جميع الناس أن يخلصوا وإلى معرفة الحق يقبلوا) (1تي 2: 4). هو واقف على باب قلوبنا يقرع من خلال كلام الرسل القديسين، عبر أحداث شتى في حياتنا، وأيضا عن طريق مقابلتنا أشخاصا يوحون لنا بوجود حياة مختلفة. أما قبول هذه الدعوة أو رفضها، واستثمار محبة الله أو التنكر لها، فذلك يتوقف على مشيئتنا الخاصة، على حريتنا”.

وتابع عوده: “إن دعوة الله تشمل جميع الناس، لكن طبعا، لا يستجيب جميعهم لها. الموقف الإيجابي أو السلبي الذي سنأخذه من هذه الدعوة هو اللحظة الحاسمة في حياتنا. لا شك أن المسيح لن ييأس من قساوة قلوبنا، بل سيظل يقرع أبوابها حتى نفسنا الأخير. لذلك، لا نسقطن في الخمول، يائسين بسبب الوقت الثمين الذي أضعناه، ولا نفكرن في هذا الوقت الضائع، بل فلنحاول إستغلال ما تبقى لنا منه. إمكانية الرجوع عن الخطأ والتوبة متوافرة دائما. المهم القرار: أن نعترف بخطايانا ونعلن الندم بدموع وتوبة ونتبع الرب يسوع الذي به وحده نخلص. الخطيئة هي انفصالنا عن الله، وتغربنا عن نبع الحياة، وفقداننا للحوار الشخصي مع الله. الإنفصال عن الرب يتم بالجحود، أي بنكران وجوده أو رفض مشيئته. فإذا قلنا إننا مؤمنون، هذا يعني أمرين: أولا، أننا نؤمن بوجود الله، وثانيا أننا نقبل كلمته. كذلك، نثق بكل ما أعلنه لنا المسيح، بحيث يصبح كل ما قاله بالنسبة إلينا كلمة حق وشرعة لحياتنا. أما إن لم نطع وصاياه، فمهما تكن أقوالنا، يبقى أننا فعليا لا نضع ثقتنا فيه، وبهذا نحن نهينه. لذا، (الخطيئة هي المعصية) (1يو 3: 4)، وعلاقتنا بالله ليس لها طابع المحكمة القانوني، ولا تحدد بالخضوع الخارجي لوصاياه، إنما هي علاقة شخصية، وعصياننا لشريعته هو رفض لمحبته، الأمر الذي يسبب انقطاع شركتنا به. كل وصية تحوي الثالوث القدوس بكامله داخلها، لذلك من يحب المسيح يحفظ وصاياه، وهكذا يعرف المسيح معرفة أفضل، ويتحد به، ويصبح مقرا للثالوث القدوس. لكن، عندما نقتصر على مفاهيم قانونية وخلقية للخطيئة، نحصر التوبة في أعمال ظاهرية، ولا نغوص إلى العمق”.

وأردف: “علينا أن نعي خطورة خطايانا وأن نتحمل نتيجة أفعالنا. هذا هو صليبنا الذي سيوصلنا إلى القيامة. سمعنا في الإنجيل نبوءة إشعياء: (الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورا عظيما، والجالسون في بقعة الموت وظلاله أشرق عليهم نورا). هذا النور الذي تحدث عنه الأنبياء قديما هو الآن ظاهر. إنه المسيح الذي حل في ظلمة العالم لينيرها بتعاليمه وحياته. إنه النور الذي ظهر في الأردن وامتد إلى الجليل ليشرق في العالم أجمع”.

وقال: “قبل أن يعمد يسوع كان يوحنا يكرز قائلا: (توبوا فقد اقترب ملكوت السموات)، وكان يعمد اليهود قائلا: (أنا أعمدكم بماء ولكن يأتي من هو أقوى مني، الذي لست أهلا أن أحل سيور حذائه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار) (لوقا 3: 16). وها نحن نسمع يسوع قائلا في إنجيل اليوم (توبوا فقد اقترب ملكوت السموات)، لكن الملكوت المقترب مع يوحنا أصبح حقيقة مع المسيح الذي هو أساس الملكوت والطريق إليه. كيف نصل إليه؟ بالتوبة، بالرجوع إلى الله والإستسلام لمشيئته. وهذا الرجوع يتم بملء حرية الإنسان كما قلنا. الله لا يفرض نفسه على الإنسان. الله لا يقتحم قلوبنا بل يهب علينا كنسيم عليل يضيء عتمة نفوسنا التي أظلمتها الخطيئة”.

وأضاف: “الخطيئة هي ما أوصل بلدنا إلى هذه الظلمة التي تغلف حياتنا، ولن ننجو إلا بالتوبة والندم والبكاء على كل ما اقترفت أيدينا بحق بلدنا. علينا جميعا، مواطنين ومسؤولين، أن نصارع الظلم والحقد وبيع الضمير. علينا أن نجاهد من أجل إحقاق الحق ومن أجل نشر العدالة والمساواة والأخوة والسلام، متخلين عن كل أنانية ومصلحة وارتباط يسيء إلى بلدنا وإلى علاقتنا بالإخوة. بلدنا مدعو أن يصبح فردوسا فلنحرره من كل غي وضلالة وخطيئة، ومن كل ظلم وشر واستقواء وتسلط، ولندفع بعضنا بعضا إلى المحبة والتسامح والتضحية والتفاني من أجل خير بلدنا وخيرنا جميعا. لذا صلاتنا أن يعود الجميع في هذا البلد إلى رشدهم ويكفوا عن المهاترات والأحقاد والنكايات، ويوقفوا التصعيد والتعطيل ورهن الضمير. السجالات لا تنفع وتبادل الشتائم والإهانات لا يخرج البلد من المأزق. نحن بحاجة إلى الهدوء والحكمة والتعقل، وإلى العمل الدؤوب، وإلا نكون كمن ينحر نفسه”.

وتابع عوده: “في ظل ارتفاع نسبة المصابين بفيروس كورونا، لا بد من التذكير بأن الحياة هبة مقدسة منحنا إياها الله لكي نحافظ عليها بكل الوسائل المتاحة. فالأطباء هم يد الله الشافية على الأرض، وهم يعرفون ما يجب القيام به في سبيل إيقاف تمدد الوباء أكثر من سواهم. فلا تسمعوا للذين يقولون لكم إن الوقاية خطيئة، ويجب التسليم لمشيئة الله، لأن في هذا الكلام بعدا شيطانيا يجعلكم تجربون الله (مكتوب … لا تجرب الرب إلهك) (متى4: 7). لقد أخبرنا الله أن الويل لمن تأتي عن طريقه العثرات، فإذا أخبرنا الجميع بأننا لن نتخذ الوقاية اللازمة لأننا متكلون على الله، ثم أصبنا ومتنا، ألا نشكك الناس بالقدرة الإلهية؟ لا تنخدعوا بنظريات المؤامرة، ولا تتأثروا بأقوال من هم حولكم. طبعا إتكلوا على الله ولكن إفعلوا ما ينصحكم به الطب والعلم، لأن الرب يستخدم كل الوسائل والطاقات البشرية من أجل خلاص عبيده”.

وقال: “سمعنا في رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل أفسس كيف أن الرب أعطى لكل واحد منا مواهب ووزنات مختلفة فجعل (بعضا رسلا، وبعضا أنبياء، وبعضا مبشرين، وبعضا رعاة معلمين) (أفسس4: 11) وبعضا مهندسين وأطباء. كما نقرأ في سفر يشوع بن سيراخ: (أكرم الطبيب لأجل فوائده، ولأن الرب خلقه فمن العلي معرفته … إذا مرضت يا ابني فلا تتهاون … وادع الطبيب لأن الرب خلقه أيضا، وخله إلى جانبك ما احتجته فيوما ما يكون شفاؤك على يديه ويكون ذلك أنه دعا الرب فاستجاب منعما عليه بالنجاح) (يشوع بن سيراخ 38: 1 – 14). في الكنيسة عدد كبير من القديسين كانوا أطباء، يشفون النفس والجسد معا. نذكر على سبيل المثال لا الحصر كلا من القديسين الصانعي العجائب والعادمي الفضة قزما ودميانوس اللذين عاشا في القرن الثالث ونعيد لهما في الأول من تموز، اللذين تعلما الطب وحذقا فيه، فجعلا حياتهما وقفا على خدمة الإنسانية المتألمة، فكان عملهما إرشادا حيا للمؤمنين. بارك الله عملهما في العاصمة الرومانية فأكثر الشفاء على أيديهما إلى حد المعجزات، فصارت الناس تزدحم على بابهما طالبة شفاء النفوس والأجساد”.

وأضاف: “القديس العظيم في الشهداء والطبيب الشافي بندلايمون الذي عاش في القرن الرابع ونعيد له في 27 تموز، والذي كان طبيبا ماهرا حاذقا معروفا في الأوساط الكبيرة والحلقات العلمية. عندما استنار بندلايمون بضياء الإنجيل وقبل سر المعمودية أضحى طبيبا رسولا، واندفع يستخدم عمله ومهنته في سبيل نشر تعاليم المسيح. كان يطبب المرضى مجانا ويقدم لهم ما يحتاجون إليه من صنوف العقاقير والأدوية، وكانت صلاته تشفيهم أكثر مما تشفيهم الأدوية والعلاجات. أما القديس الشهيد والطبيب الشافي إيليان الحمصي، الذي عاش في القرن الرابع ونعيد له في 6 شباط، كان طبيبا من أولئك الرجال الأتقياء الصالحين الذين يتفانون في خدمة الرب بإيمان نير وعلم ثابت. إن الأطباء أمثال إيليان يجعلون عملهم وفنهم وأوقاتهم وقفا على خدمة الطبيب يسوع الفادي في شخص أعضائه المتألمة، لكي تكون لهم خدمة الجسد طريقا إلى النفس، فيحيون فيها عاطفة الإيمان، وينعشون قوة الرجاء، ويملأونها آمالا في الحياة الخالدة السعيدة المنزهة عن الألم. هكذا قضى إيليان حياته خادما للرب في شخص المرضى، إن الطبيب القديس إيليان سيبقى شفيع الأطباء المسيحيين الصالحين، ومثال رجال المشاريع الخيرية في كنيسة الله المقدسة، وهناك العديد من القديسين الأطباء المعاصرين منهم القديس لوقا الطبيب وسواه. إن عصرنا الحاضر لم يحرم أطباء يولون الإنسان المريض من عنايتهم النصيب الكبير، تلك العناية المبنية على الخدمة الحقة والمحبة الأخوية لأنها فضيلة سامية سماوية يكافئها الله بالنعم وحياة النعيم الأبدية”.

وختم عوده: “ألا بارك الله حياتكم، ولتكن سيرتكم ظهورا ثالوثيا دائما في وسط ظلمة هذا الدهر، حتى يستنير عن طريق قداستكم من هو بحاجة إلى بصيص نور يوصله نحو الملكوت السماوي، آمين”.

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.