خارطة المواقف السياسية من الحكومة الجديدة.. عون، بري والحريري

تغيَّر الوضع في لبنان كثيرا منذ سنة تقريبا. حدثت انتفاضة شعبية عارمة جرى احتواؤها ولكن جذوتها لم تنطفئ ومازالت «نارا تحت الرماد».. استقالت حكومتان.. حصل انهيار فظيع في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، المالية والنقدية.. وقع انفجار مدمر مروع في مرفأ بيروت وقلبها.. لبنان الذي كان «ينتفض» صار «يحتضر». ومع كل ذلك لم يحدث تغيير يذكر في مقاربة عملية تشكيل الحكومة الجديدة، ومازالت التجاذبات والمناورات هي هي..

الكل متفقون على أن الأزمة خطيرة وقد أصابت كل شيء وتهدد حتى الوضع الأمني، وأن لبنان يقف في عين العاصفة الإقليمية. الكل يقولون انه لم يعد من مجال لـ «ترف» الانتظار وإضاعة الوقت، ومع ذلك لا يبدو أن التعاطي مع الملف الحكومي هو في مستوى الأزمة، ولا يبدو أن هناك من يستعجل تشكيل الحكومة، ومن يبدي استعدادا لتقديم تضحيات وتنازلات من مصالحه وعلى حسابه.

في ظل أزمة استثنائية، لبنان يحتاج الى حكومة استثنائية في سرعة تكوينها وولادتها، في تشكيلتها وأعضائها، في صلاحياتها ومهمتها.. حكومة قادرة على اتخاذ قرارات «صعبة وسريعة» وتنفيذها، حكومة قادرة على تلبية شروط وموجبات المجتمع الدولي التي باتت مختصرة تحت خط أحمر عريض هو: الإصلاحات.. ومع ذلك، فإن مقاربة عملية الحكومة الجديدة تتم بطريقة عادية ويجري البحث في صيغ سابقة، جربت وفشلت. ويبدو أن الطبقة السياسية الحاكمة الموضوعة بين خيارين: التنازل في السلطة للحفاظ على الدولة، أو التمسك بالسلطة للحفاظ على المصالح والمكاسب.. مازالت تفضل وتعتمد الخيار الثاني.

في الفترة الواقعة بين استقالة حكومة حسان دياب وإطلاق عملية تشكيل حكومة جديدة بدءا من استشارات التكليف، حصلت جولة أولى من المشاورات والاتصالات السياسية كانت كافية للاستنتاج أن الحكومة الجديدة ليست سهلة وسريعة، وإنما محاطة بتعقيدات من رأسها (رئيسها) حتى اخمص قدميها (توزيع الحقائب).. ليس كل 14 آذار موافق على عودة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة، وليس كل 8 آذار معترض على هذه العودة.. هناك خلاف سياسي بين من يريد حكومة حيادية مستقلة ومن يريد حكومة وحدة وطنية.. هناك فرق شاسع بين من يعطي أولوية لبرنامج الحكومة لتكون الرئاسة والتشكيلة مفصلتين على قياسه ومن يفضل سلوك المسار التقليدي بالتوافق على رئيس الحكومة أولا ومن ثم تشكيل الحكومة ووضع برنامجها.. باختصار، تعقيدات كثيرة تحيط بملف الحكومة والخفي من المواقف وما يطبخ وينسج في الكواليس والغرف المغلقة أكثر بكثير من المعلن والمعلوم وما يتسرب ويطفو على سطح الأزمة.. ولكن رغم التعقيد والغموض، يمكن واستنادا الى معلومات وتقديرات رسم خارطة سياسية لمواقف الأطراف الرئيسية على النحو التالي:

1 ـ الرئيس ميشال عون

يتريث الرئيس ميشال عون في الدعوة الى الاستشارات النيابية الملزمة قبل الاتفاق على تشكيل الحكومة المقبلة ومضمونها، خصوصا أن لا مهلة دستورية قانونية تقيده وتلزمه بالدعوة الى الاستشارات.. أما التريث فيعود الى سببين: الأول هو ضمان الوصول الى حكومة تراعي التوازن السياسي والتمثيلي وليس المحاصصة الطائفية فقط.. والثاني أن الرئيس عون يعتبر أن قوته وورقته هي بالدعوة الى الاستشارات، وبعد تكليف أي شخصية لن يعود بإمكانه التحكم بمسار اللعبة، لذلك يشترط الاتفاق المسبق مع الحريري في لقاء ثنائي يجمعهما قبل الاستشارات في قصر بعبدا للاتفاق على تفاصيل ومهام الحكومة التي يفضلها أن تكون حكومة أقطاب مصغرة من 10 أو 14 وزيرا.. يرفض عون ان يدفع تحت ضغط الأزمة والوقت الى التسليم بخيار عودة الحريري الذي لا يعتبره مطابقا لمواصفات المرحلة ولا يتمتع بتأييد كبير، سواء داخل قوى ومجموعات الحراك والانتفاضة أو بين القوى السياسية الرئيسية باستثناء الرئيس نبيه بري، يضاف الى ذلك غياب التأييد بشكل كامل أو جزئي في مراكز الثقل الخارجية عن الدعم المعلن والمباشر له مثل واشنطن وباريس والرياض.

ولكن رغم الـ «لا» الموجودة من حيث المبدأ لخيار عودة الحريري، يبدو موقف الرئيس عون أكثر مرونة وعلى طريقة لا.. ولكن، وهو يتحدث عن ضمانات يطلبها سلفا من الحريري كي يوافق عليه، ومن هذه الضمانات ما يتعلق بالتمثيل في الحكومة والحصة المسيحية الرئيسية التي ستكون عند رئيس الجمهورية على نحو يمكنه من أن يكون الضابط الفعلي لإيقاع وأداء الحكومة ومسارها ما دام التيار الوطني الحر لن يتمثل فيها.. من الضمانات أيضا ما يتعلق بعمل الحكومة المقبلة والتزام الحريري التدقيق الجنائي في مصرف لبنان الذي قررته الحكومة المستقيلة ولم توقع عقده.

2 ـ الرئيس نبيه بري

يعزو الرئيس نبيه بري تمسكه بسعد الحريري مرشحا وحيدا لرئاسة الحكومة الى نظرته الى الموقع، وهو أنه سياسي بامتياز، لا يسع أن يحل فيه إلا الأكثر تمثيلا في طائفته. لم يعد أحد يسمع بري يُصرّ على حكومة الوحدة الوطنية كخيار أوحد، بل يتوسع في تقدير موقفه للحكومة الجديدة، ما دام الحريري رئيسها لم يعد مهما من فيها سياسيين أو اختصاصيين أو مختلطة من الاثنين. لا يمانع في أن تكون من اختصاصيين حتى. ما يسمعه منه المتصلون به أنه يناقش تأليف الحكومة ببراغماتية ناجمة عن أن المنطقة تمر في مرحلة قطع رؤوس، يقضي أن ينجو لبنان بنفسه منها. يقول إنها صعبة، ووجود الحريري على رأس الحكومة يقلل الأخطار والأضرار. ويستند بري الى موقف متفهم لحزب الله ويأخذ في الاعتبار عاملا إضافيا، هو إصراره على رئيس للحكومة يمنع إيقاظ الفتنة السُنية ـ الشيعية.

في اعتقاد بري أن الانهيار المالي والاقتصادي الآخذ في التمدد، وأن الكارثة التي خلفها زلزال 4 أغسطس الجاري، وأن الاندفاعة الدولية تجاه لبنان والمشروطة بقيام حكومة محصنة بتوافق داخلي تكون مهمتها الوحيدة تنفيذ الإصلاحات، كلها قد تدفع باسيل إلى رفع الـ «فيتو» المرفوع ضد الحريري بحجة أنه لايزال الأقوى في طائفته، وأن بقاءه خارج المنظومة الحكومية سيفتح الباب أمام إنتاج نسخة منقحة لحكومة حسان دياب، وبلوغها بالنتيجة حائطا مسدودا. على هذا الأساس، طرق بري باب القصر في بعبدا، خصوصا أن الاتصالات بين الرئاسة الأولى وبيت الوسط مقطوعة، وما من وسيط غير رئيس المجلس ليعيد وصل قنوات المشاورات بين الفريقين.

لكن بري شعر أن محاولته لإحداث خرق في جدار الحكومة لن يوصل إلى أي مكان طالما أن المعادلة التي أتت بالحكومة المستقيلة لاتزال هي نفسها، وهو أصلا لم يكن متحمسا لتلك التجربة، وهو لذلك لن يكمل مسعاه إذا لم تتغير الاعتبارات. وهذا ما يفسر انزعاجه مما أفضى إليه اللقاء مع جبران باسيل، ما دفعه الى الإعلان أن يدا واحدة لا تصفق، والى الانتقال الى مقاعد الانتظار: إما تبادر رئاسة الجمهورية الى تحديد موعد للاستشارات حيث تترك للأغلبية النيابية تسمية رئيس الحكومة الجديد، وإما انتظار عامل خارجي من شأنه أن يبدل المشهد.

والنتيجة، مزيد من التشنج، ومزيد من الاشتباك، ومزيد من الوقت الضائع، والأكيد مزيد من الاهتراء على مستوى البلد بشكل عام. وهذا المسار يدفع بري الى إلقاء خطاب مهم في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر الأحد المقبل، ولن يكون مفاجئا إن بقيت مهمته عالقة في حلقة الشروط، أن يبادر الى وضع النقاط على الحروف، وليتحمل كل طرف مسؤوليته.

3 ـ الرئيس سعد الحريري

يحاذر الرئيس سعد الحريري السقوط في مستنقع المفاوضات الحكومية «المسبقة» ويفضل ترك الدفة بين أيدي بري. وهو من البداية لم يظهر حماسة لدخول بازار الأخذ والرد حول موقفه من التكليف واعتصم بالصمت مكتفيا بالحركة التي يقودها رئيس المجلس، والتي لم تصل الى نتيجة حتى الآن.

ولكن الحريري قد لا يبقى صامتا لوقت طويل، وربما يفصح عن موقف له هذا الأسبوع، وهو لايزال، رغم التناقضات القائمة حيال عودته، المرشح الوحيد حتى الآن. وقد أبلغ الرئيس بري أنه لن يسير إلا ببرنامجه الحكومي ولن يقبل بشروط مسبقة من أحد، كما لن يدعم ترشيح أحد.

الخيارات الحكومية حتى الآن محصورة عمليا في اثنين:

٭ أن يعود الحريري رئيسا للحكومة، وهذا الخيار طريقه مازالت مليئة بالحفر والألغام، ولن يكون بري لوحده قادرا على فتحها.. وحتى لو وافق الحريري على الدخول في مفاوضات مسبقة، فإن موقعه التفاوضي ليس قويا، في ظل غموض الموقف الدولي من عودته، وعدم وجود غالبية نيابية مريحة مؤيدة له، وحيث أن التأييد الواضح يأتي حصرا من الثنائي الشيعي.

٭ أن يُسمي الحريري رئيسا للحكومة يمثله ويحظى بدعمه، والأسماء المطروحة هي من الحلقة المقربة من الحريري مثل ريا الحسن وسمير الجسر وليست من خارج هذه الحلقة، وخصوصا من مجموعة رؤساء الحكومات السابقين.

الأنباء

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.