لبنان بين المواجهة المفتوحة على أرضه وشبح أفغانستان!

القدس – رلى موفق: نتحدث في لبنان عن انسداد مُحكم في الأفق السياسي. لا اختراقات محتملة. يوماً بعد يوم تتكشّف حالة الانعدام في التوازن السياسي الداخلي، ما حدا بسفيرة الولايات المتحدة الأمريكية دوروثي شيا إلى النزول إلى ساحة المعركة مباشرة في مواجهة الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بعد إعلانه عن انطلاق وشيك للباخرة الأولى من البواخر المحمّلة بالوقود الإيراني إلى لبنان التي سيستقدمها «الحزب» في تحدٍ علني للعقوبات الأمريكية، نافذاً من وجع الناس وذلّها من دون بنزين ومازوت وكهرباء ومياه.

بالطبع قفز نصر الله فوق الأسباب التي آلت بـ»بلاد الأرز» إلى هذا الدرك من الذل والعوز والفقر، حيث صبَّ جام غضبه على الحصار الأمريكي الهادف إلى إخضاع «مقاومته» مقدماً مرافعة جديدة بأن إيران لا تفرض مشيئتها على البلاد والعباد.
في الواقع، بدأ هامش المناورة يضيق عند الجميع، وفي مقدّمهم عند حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي قرّر، بعد طول تواطؤ، قفل «حنفية» الدولار المدعوم من البنك المركزي، التي كانت مفتوحة ليس كرمى لعيون الشعب اللبناني لتأمين المواد السيادية ولقمة عيشه ودوائه، بل كرمى عيون تحالف «المافيا – الميليشيا» الذي يتغذّى من جني أموال اللبنانيين ورزقهم بغية انتفاخ جيوب التحالف ومد النظام السوري بالأوكسجين مهما كلَّف الثمن. اليوم، ما عادت «حنفية» الدولار المدعوم متاحة، بعدما جففت «الكارتيلات» والقرار السياسي بالتهريب إلى سوريا مليارات من الاحتياطي في المركزي الذي كان قبيل ثورة 17 تشرين أول/أكتوبر 2019 يُقدّر بـ33 ملياراً، وأضحى اليوم 15 ملياراً هو الاحتياطي الإلزامي الذي على البنوك إيداعه في مصرف لبنان، ويُشكّل عملياً ما تبقى من أموال المودعين.

وقف الدعم عن المحروقات

خرج مصرف لبنان ليعلن وقف الدعم عن المحروقات، كاشفاً أنه دفع ما يفوق الـ800 مليون دولار للمحروقات في شهر تموز/يوليو، فيما المواد مفقودة من السوق وتُباع بأسعار تفوق قيمتها كما لو رُفع الدعم عنها. فكان أن وصف رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الوريث السياسي لرئيس الجمهورية ميشال عون، خطوة سلامة بـ»المؤامرة» على العهد، وتهدف إلى إسقاط رئيس الجمهورية وضرب «التيار» ومن ثم المقاومة، مُقارناً المرحلة الراهنة بمرحلة ما قبل «اتفاق الدوحة» الذي تلا غزوة «حزب الله» بسلاحه لبيروت في أيار/مايو 2008 مستخدماً وصف نصر الله لقوى «14 آذار» المناهضة للمحور السوري – الإيراني بـ»جماعة فيلتمان» (السفير الأمريكي آنذاك لدى لبنان).
إنها وزارة الطاقة التي تبيض ذهباً « لـ»التيار الوطني الحر» للسنوات الـ13 الماضية، من دون أن تُضيء الكهرباء بيوت اللبنانيين 24/24 ساعة كما كانت الوعود تسبق إقرار مجلس النواب لسلف مالية للكهرباء ذهبت هدراً وسرقة وفساداً لتُشكّل في نهاية المطاف نصف عجز خزينة الدولة، بما يفوق الـ40 مليار دولار. وهي تُستخدم اليوم كإحدى أدوات الضغط في تكتيكات السياسة الداخلية على خلفية تحسين لعبة المواقع قبل الاستحقاقات الدستورية. بات القاصي والداني من اللبنانيين يُدرك أن باسيل يخوض معركة مستقبله السياسي. كان الرجل قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 يُعبِّد الطريق لخلافة عمّه في سدّة الحكم، فإذا بهذا الحلم يصبح بعيداً بعد انفراط عقد التسوية الرئاسية وبعد العقوبات الأمريكية عليه، التي يُدرك أنها وإنْ لبست لبوس العقاب على الفساد، فإن لبّها سياسي يعود إلى التصاقه بـ»حزب الله» ليس عقائدياً بل مصلحياً.
على أن الرجل لا يستسلم، ولن يستسلم ما دام يُمسك بتوقيع رئيس الجمهورية. المجتمع الدولي بأجمعه يطالب بتأليف حكومة تتبنى الإصلاحات من أجل مساعدة لبنان، ولكن الحكومة معلّقة، وستبقى كذلك ما لم تتضمن ثلثاً معطلاً، مُعلَناً أو مُستتراً، لوريث عون لوحده من دون حلفاء له. ينتظر الرئيس المكلف نجيب ميقاتي على قارعة قصر بعبدا، كما سبق أن انتظر سلفه سعد الحريري. ولا يتوانى الجميع عن استخدام ما لديهم من وسائل ضغط في لعبة الكباش وشدّ الحبال في السنة الأخيرة من عمر العهد. فريق عون يتّهم «تيار المستقبل» بأنه كان وراء الطلب من حاكم مصرف لبنان رفع الدعم عن المحروقات. في حقيقة الأمر، تحالف عون – «حزب الله» وحلفائهما مع إبقاء الدعم، فيما القوى السياسية من «تيار المستقبل» و»القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الاشتراكي» و»حزب الكتائب» مع رفع الدعم، ما دام ليس هناك من قدرة مؤسساتية على ضبط مسارات التهريب والاحتكار.

تفجير عكار

جاءت كارثة تفجير خزان من البنزين في بلدة التليل العكارية على الحدود الشمالية مع سوريا الذي أودى بحياة 30 ضحية حتى الساعة ليقدّم صورة فاضحة لحجم الفساد والجشع والفلتان والفوضى الذي وصلت إليه البلاد. ابن مهرِّب يُطلق رصاصة من مسدسه على خزان البنزين بعدما صادره الجيش اللبناني وأراد توزيعه على المواطنين المتجمهرين. هي رواية قابلة لأن تكرّر يومياً ليس فقط في البلدات الحدودية بل في مختلف المناطق، إن لم تكن أمام محطات الوقود، فقد تكون أمام الصيدليات أو الأفران أو مخازن المواد الغذائية.
على أن اللافت هو حال الاستسلام الذي يُصيب الناس، وكأنهم لا يشبهون أولئك الذين نزلوا في 17 تشرين الأول/أكتوبر. ضربهم حال من اليأس والإحباط والقدرة على التغيير. يُدركون أن المنظومة الحاكمة أقوى من الناس، وأن المربّعات الطائفية والخوف من الآخر يشلّ أي إمكانية لبناء وطن سليم. تجدهم يسألون عن الغد، يُفتشون عن فرصة للهجرة إلى بلد آخر، لا يريدون البقاء في بلد لا معنى للحياة فيه، ما دام مكتوباً على أجياله أن تعيش جولات من الحروب المُعلنة وغير المُعلنة.
وما كان ينقصهم هو «حرب السفن» التي أطلّ الأمين العام لـ»حزب الله» في يوم عاشوراء ليُعلنها، معتبراً -من عنده- أن السفينة هي بمنزلة أرض لبنانية منذ لحظة إبحارها من الموانئ الإيرانية. هي عملية استعراض للقوة على رؤوس اللبنانيين في وجه أمريكا وإسرائيل، بعدما تعبوا من الذل. وهي كذلك إعلان بانضمام «حزب الله» إلى «كارتيل» النفط. نصر الله الذي كان يتباهى بأن سلاحه وعتاده وأمواله من الجمهورية الإسلامية الإيرانية سنجده مع قابل الأيام يُعلن انخراط حزبه في تقاسم الجبنة لأخذ حصته منه. بعد «كارتيل» النفط، سيطل قريباً ليعلن بدء استيراد الدواء الإيراني وغير الإيراني، وبالتالي الانضمام رسمياً إلى كارتيل الدواء. فيما هو حاضر في التجارة عبر مؤسسات يملكها «الحزب» مباشرة أو مواربة من خلال رجال أعمال شيعة وُضعوا في الواجهة ويعملون في خدمة «الحزب».

سوق الشراء والبيع

وبغض النظر عن المخاطر على لبنان من إقدام نصر الله على استقدام المشتقات النفطية من إيران التي فُرضت عليها عقوبات أمريكية، فإن ثمة أسئلة لا بدّ من طرحها: هل يأتي نصر الله بالمحروقات الإيرانية لأن هناك حصاراً نفطياً على لبنان؟ وكم باخرة يمكنه بأن يأتي بها، ولا سيما أن آخر التقارير الإعلامية تحدثت عن حاجة لبنان سنوياً إلى 360 باخرة، وهل السفن هبة أم مدفوعة الثمن؟ وعلى أي سعر؟ وبأي عملة؟ وإذا وصلت، فبأي سعر سيتم بيعها للناس؟ أسئلة ستُظهر الإجابات عنها أن ذلك «السيد» الذي كان يخرج ليهدد بأصبعه القريب والبعيد، وليرسم مسارات «المحور» الاستراتيجية في لبنان سوريا والعراق واليمن وغرب آسيا، بات اليوم غارقاً في البحث عن كيفية تأمين أبسط مقومات الحياة لبيئته.
يلعبُ «البليار» يتحدّى الحصار الأمريكي على إيران، إن مرت السفينة – وقد تكون لمرة وحيدة – يتغنى بالانتصار، وإن لم تمر، بات أمر حضوره في سوق الشراء والبيع طبيعياً. يقوم نصر الله بكل هذه العراضة، وهو المدرك ومعه باسيل أن هناك محادثات تجري مع مصر والأردن من أجل جرّ الكهرباء عبر الخط العربي من الأردن عبر سوريا ومن أجل نقل الغاز المصري. وهذا الأمر يحتاج إلى استثناء من الخزينة الأمريكية للبنان كي لا يتعرّض لعقوبات قانون «قيصر». وهو ما كانت القاهرة وعمّان تعملان عليه مع واشنطن بطلب من الحريري. بالطبع هذه ليست بالأخبار السارة لباسيل الذي يفرض قبضته سياسياً على وزارة الطاقة. ويريد أن يبقى الدعم إلى حين انتهاء العهد. دعم يوفر الملايين لتأمين مصاريف الحملة الانتخابية، خصوصاً أن الشكوك كبيرة حول إمكانية بدء العمل بـ»البطاقة التمويلية» التي تطمح القوى السياسية النافذة بتحويلها إلى «بطاقة انتخابية» لكن دون ذلك عقبات المحاصصة من جهة والعين الدولية من جهة أخرى، خصوصاً أن تمويل «البطاقة» سيتمّ بقرض مستحق للبنان من البنك الدولي.
كل ذلك يجري على وقع شبح الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وترك الأمريكيين لحلفائهم يحترقون بنار حركة «طالبان». خطوة جعلت نصر الله يهجم من خلالها على منظمات المجتمع المدني، التي اعتبرها وكراً يُدار من مقر السفارة الأمريكية في عوكر، فهدّد ودعا من يعتمد على الأمريكيين وسفارتهم في بيروت أن يأخذوا العبرة من تجربتهم في أفغانستان حيث أن «كلابهم البوليسية الموضوعة لحمايتهم هي أقرب إليهم منكم».
والحقيقة أن القوى السياسية التي كانت تُصنّف على أنها حليفة الولايات المتحدة تأخذ موقف المتفرّج منذ أن اختل التوازن في المنطقة، وتخشى من نتائج استخدامها وقوداً في لعبة تحسين الأوراق على طاولة المفاوضات الأمريكية – الإيرانية، غير أن هذه الخشية تجعلها في واقع الأمر قوّة هامشية غير مؤثرة وتحوّلها إلى طبق في لائحة الطعام المعروضة على الطاولة بدلاً من أن يكونوا جزءاً من الجالسين إليها. فترك الصراع دائراً على الأرض اللبنانية من دون رفع الصوت والانخراط في مقاومة سياسية ومدنية لن تكون نتائجه أفضل مما حصل في أفغانستان، بحيث سيملأ الفراغ من هو أقوى على الأرض. وهذا ما يريده تحالف عون – «حزب الله» ذلك أن يقظة الرأي العام اللبناني التي بدأت تشق طريقها وارتفاع منسوب الحال الاعتراضية ضد هيمنة «حزب الله «وإيران التي عزلت لبنان عن محيطه العربي وعن امتداده الغربي، ستتحوّل إلى كرة ثلج مع تفاقم الفوضى وازدياد الذل والعوز، وعندها ستكون بداية نهاية أسطورة حزب لم يتعلّم من تجارب الماضي التي مرّت على لبنان، لكنها نهاية ستكون أكلافها كبيرة على كل اللبنانيين.

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.