قراءة سياسية في نتائج الجلسة الأولى الانتخابية لـ «برلمان 2022»

لم تسفر الانتخابات النيابية عن أكثرية نيابية جديدة واضحة ومحددة، ولم تحدد الجهة التي آلت إليها الأكثرية، ولا المكان الذي استقرت فيه. في لغة الأرقام، كان واضحا أن الأكثرية خرجت من يد حزب الله وحلفائه (فريق 8 آذار) مع حصول هذا الفريق على 61 مقعدا في البرلمان الجديد، بعدما كان يمتلك 71 مقعدا.. ولكن لم يعرف أين ذهبت الأكثرية، ومن هو الفريق الأكثري الجديد.. وفي لغة السياسة، كان واضحا أن توازنا سياسيا جديدا قد نشأ، وأن تغييرا ما طرأ على تركيبة المجلس النيابي مع دخول لاعب جديد اصطلح على تسميته «فريق التغييريين» (14)، ومع اتساع دائرة النواب المستقلين. وهذا المعطى الجديد (إضافة الى ظاهرة التكتلات النيابية الصغيرة) أدى من جهة الى تظهير خارطة نيابية مبعثرة ومفككة، ومن جهة ثانية الى نسف الأكثرية السابقة (برلمان 2018).

ولأن تغييرا حدث في الانتخابات ولم يحدث في أول جلسة للبرلمان الجديد، حدثت حالة صدمة وإحباط، وتحديدا عند فريق المعارضة وجمهورها، ولمجرد أن أي تغيير لم يحدث في رئاسة المجلس وهيئته «القيادية»، ومازال القديم على قدمه، ولم تكن نتائج التصويت النيابي منسجمة مع مناخات واتجاهات التصويت الشعبي.. حزب الله خسر الأكثرية، ولكنه مازال مسيطرا على البرلمان، ويمكن لـ«سيطرته» أن تنسحب على مواقع ومؤسسات أخرى. و«تكتل لبنان القوي» الذي سجل تراجعا شعبيا على الساحة المسيحية، نجح في احتكار التمثيل المسيحي على مستوى «إدارة المجلس» وحجز ثلاثة مواقع: نائب الرئيس، أمين السر، ومفوض (من ثلاثة).

ولكن قراءة واقعية متأنية في نتائج الاختبار الأول والمواجهة الأولى في البرلمان الجديد، لا تسمح بالاستنتاج أن أكثرية جديدة بسيطة قد تبلورت، وأن ما خسره حزب الله بالانتخابات عاد وحصله بالسياسة، أو أن انقلابا أبيض حدث على نتائج الانتخابات. فإذا كان خصوم حزب الله تسرعوا في اليوم التالي للانتخابات في الإعلان أن الأكثرية باتت عندهم وفي يدهم (بعدما كانوا بالغوا في الرهان على حجم التغيير الذي ستحمله الانتخابات، وفي تكبير حجم الآمال ورفع سقف التوقعات والطموحات)، فإن حزب الله وحلفاءه يتسرعون في اليوم التالي للمنازلة المجلسية في الإعلان أن الاكثرية مازالت عندهم عمليا، وأن الحسابات على أرض الواقع تختلف عن الحسابات على الورق وتلغيها.

الجلسة النيابية الأولى كانت «اختبارا أوليا» لقوى «المعارضة» بشكل عام ولقوى التغيير بشكل خاص التي لم تنجح في هذا الاختبار وخسرت بالنقاط… ولكن الجلسة الأولى كانت أيضا اختبارا أوليا لميزان القوى الجديد، ونجحت في تظهير «توازن دقيق وهش» هو أقرب الى «التوازن السلبي» في ظل خارطة نيابية سياسية تتميز بـ:

٭ كتلة كبيرة متماسكة ومتراصة يقودها حزب الله وتضم بشكل أساسي التيار الوطني الحر وحركة «أمل».

٭ كتلة كبيرة مقابلة، مفككة ومشتتة تضم قوى المعارضة (معارضو حزب الله والعهد) وموزعة تحت عنوانين ـ وتصنيفين: سياديون وتغييريون.

إذا كان «التماسك والتراص» هما سمة الكتلة الأولى، فلأن لها «مايسترو» (مرجع قيادي ومنسق ميزان) واحد هو حزب الله.. في حين أن الكتلة الثانية تفتقد الى هذا «المايسترو القيادي». القوات اللبنانية هي صاحبة الكتلة الأكبر وانفردت في تحقيق تقدم (مقارنة بانتخابات 2018)، ولكنها ليست في وضع القادر على القيام بهذا الدور لعدة أسباب لا مجال للخوض فيها الآن، ما يحتم عليها التحول الى دور آخر وفي اتجاه إيجاد «ائتلاف» و«إطار سياسي جامع» ووضع ترتيبات وآليات تنسيق وتعاون بين مختلف القوى المعارضة، حتى لا تبقى القوات كتلة كبيرة معزولة على النحو الذي كشفته معركة أمانة السر.

لا أكثرية ثابتة ونهائية.. ثمة أكثرية متحركة والأرقام تتغير تبعا لكل استحقاق وملف، والتعاطي كما يقال – «بالمفرق وعلى القطعة».

كتلتان مرشحتان ومؤهلتان للعب دور القوة المرجحة (أو بيضة القبان): كتلة اللقاء الديموقراطي (جنبلاط) وكتلة ـ التغييريين (14). وإذا كان وليد جنبلاط قدم أول دور ناجح في أول مشهد مسرحي وعاد من جديد قوة مرجحة كما كان عليه حاله في أيام 8 و14 آذار، فإن قوى التغيير لا يمكنها لعب هذا الدور قبل توحدها في كتلة واحدة وعلى أساس تصور مشترك للسياسات والأساليب.

في إطار هذه القراءة الشاملة، تندرج قراءة نتائج وأرقام وأجواء جلسة 31 مايو. ومن أبرز البنود والنقاط:

1 ـ نحن أمام برلمان جديد وأمام تغيير حصل، ترجم أولا في «الفوز الباهت» للرئيس نبيه بري مقارنة بالأرقام ـ العالية التي حصل عليها في المرات الست الماضية وتجاوزت المائة صوت أكثر الأحيان.. لأول مرة يخوض بري «معركة صعبة» بعدما كانت معاركه سهلة، لا بل لم يكن هناك معركة ولا انتخاب، كان الأمر يحصل دوما بـ «التوافق».

و«الانتصار» الذي حققه بري، المعنوي السياسي، هو فوزه بالأكثرية المطلقة (النصف زائد واحد) من الدورة الأولى.

فلم يحصل معه ما حصل مع انتخاب الرئيس ميشال عون (رئاسة 2016)، والآن هو يبقى فيما عون يغادر.

هذا التغيير ترجم ثانيا في «نتائج التصويت» التي لأول مرة يكتنفها غموض وتظل عرضة لمفاجآت حتى اللحظات الأخيرة، بعدما كانت في السابق معروفة ومحسومة سلفا ومن اللحظات الأولى. كما ترجم في المناخ النيابي وطريقة إدارة الجلسة، حيث كان بري على درجة من الارتباك في مواجهة «شغب نيابي» قام به نواب جدد.

2 ـ لم يكن فوز بري ليتحقق لولا عاملين أساسيين: وقوف جنبلاط الى جانبه مبرهنا في أقسى لحظة سياسية واجهها بري أنه «الصديق الوفي والحليف الدائم»، بمعزل عن أي حسابات واصطفافات، والتصويت السني المرتفع الذي جاء بشكل خاص من نواب محسوبين على سعد الحريري ودائرين في فلك «المستقبل»، والمفارقة هنا أن «عكار» التي أحدثت الفارق في الانتخابات وعززت موقع التيار، هي التي أحدثت المفاجأة في انتخابات رئاسة المجلس وصبت كلها لمصلحة بري، ولكن الملاحظة الأهم، هو التصويت الطائفي أو «الميثاقي» الذي أظهر أن بري انتخب بأصوات النواب المسلمين (51) مقابل تصويت ضعيف من النواب المسيحيين (14).

إذا كان جنبلاط والسنة أعطوا بري الفوز، فإن تكتل «لبنان القوي» أعطاه الفوز من الدورة الأولى مع تصويت خمسة نواب من التكتل (ثلاثة من الطاشناق إضافة الى النائب بوصعب وفريد البستاني)، في حين التزم نواب التيار الوطني الحر (الحزبيون) الورقة البيضاء.

لم يكن بري لـ «يعبر» من الدورة الأولى لولا تسرب أصوات من «تكتل باسيل» وبالتواطؤ معه. ولم يكن النائب الياس بوصعب لينجح لولا التصويت الكامل من كتلة بري له: تبادل خدمات وأصوات بطريقة مدروسة ومدوزنة بإدارة وإخراج من حزب الله.

3 ـ «الاستحقاق النيابي» خلص الى نتائج متوقعة ولم يحمل مفاجآت. ومن الطبيعي أنه في «استحقاق شيعي» (يتعلق بمجلس النواب المؤسسة الأم المحسوبة على الطائفة الشيعية عرفا) أن تكون للثنائي الشيعي قدرة وإمكانية التحكم بالنتائج وإن بصعوبة. ولكن هذا الاستحقاق يعطي فكرة أولية لا نهائية، ولا يعتمد معيارا لأكثريات وتوزع أصواتا في استحقاقات مقبلة، أولها الاستحقاق الحكومي (السني)، وأهمها الاستحقاق الرئاسي (الماروني)، وكل منهما يخضعان لقواعد لعبة وتوازنات مختلفة.

4 ـ الاستحقاق البرلماني كشف أن «الأرجحية» في المجلس الجديد هي لحزب الله مع أكثرية بسيطة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولكنها كافية للفوز عمليا وكسب الانتخابات والمواقع.. ولكن الاستحقاق الحكومي تحكمه اعتبارات أخرى، أولها موقف الطائفة السنية وخياراتها، في حين أن الاستحقاق الرئاسي محكوم بالظرف واللحظة الدولية الإقليمية في حينه، وهذا ما يجعل أن مرور الاستحقاقين الحكومي والرئاسي لن يكون بالسرعة والسلاسة التي حصل فيها الاستحقاق النيابي، وأن الوضع في لبنان يمكن أن يشهد تكرارا للسيناريو العراقي، وحيث انتهت الانتخابات إلى أكثرية ضائعة وإشكاليات، وتم تمرير رئاسة البرلمان في حين ظلت عالقة الحكومة ورئاسة الجمهورية.

في النتيجة العريضة، يمكن لحزب الله أن يرتاح ويعتد بنتائج أول تصويت في البرلمان الجديد. وبعدما رسخت الانتخابات شرعيته الشعبية وأظهرت التزام طائفته لخياره ومشروعه، فإن الجلسة النيابية الأولى أظهرت أنه بطريقة ما لم يفقد قدرة التحكم بالمجلس وقراره، وبالتالي فإن المجتمع الدولي يتعامل مع الواقع السياسي الناجم عن انتخابات معترف بها. ولكن حزب الله ليس ضامنا لما ستكون عليه الأوضاع والنتائج في الاستحقاقات المقبلة، والتي تبدو محاطة بقدر من الغموض و«الفراغ»، وغير مضمونة لا في ظروف إجرائها ولا في نتائجها.

الانباء

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.