لبنان… الثورة والفشل

 خالد بريش*
لم يكن مستغرباً نيل حكومة حسان دياب الثقة، لأن داعميه يملكون أكثرية برلمانية مريحة، تسمح لهم بلعب ورقة الديمقراطية، وتمرير ما يريدون من دون تعب. ولكن الأهم من كل ذلك هو ما صاحب هذه الثقة، وعملية تهريبها كالسلع الممنوعة عبر الحدود، وكيفية فرضها على شارع مشتعل بالهتاف، والشتائم المقذعة الرذيلة، التي لم تعرف حدوداً، ولم يعهدها مجتمع عربي من قبل لنوابه الذين نجحوا أصلاً بفضل قانون انتخابات مُفصَّل على مقاسهم، ولا يعكس الواقع، ولا يعبّر عن رأي الشارع، وغالبية المواطنين اللبنانيين. إذ لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث، بل في تاريخ وطننا العربي، يخرج المواطنون إلى الشارع لمنع نوابهم الأفاضل، الكرام جداً، من دخول مجلسهم الموقر للاجتماع، والتصويت على الثقة بحكومة ظل ليس لها من الأمر شيء.

مواضيع متعلقة

خضات سياسية

ولأول مرة أيضاً يتم عرض البيان الوزاري، والاقتراع على الثقة، بسرعة فاقت سرعة سلق البيض، وذلك بطلب من رئيس المجلس إلى النواب لكي يختصروا سفسطاتهم.
لقد نالت الحكومة الثقة بعد اعتراض مواكب النواب وتكسير زجاج سياراتهم وقذفهم بالزبالة التي أغرقوا فيها شوارع الوطن، مما اضطر بعضهم للحضور ذليلاً في مصفحات الجيش وعرباته المدرعة، وآخرون حضروا ترافقهم مواكب موتوسيكلات شبيحتهم وزعرانهم المدججين بالسلاح، لأنهم خائفون من الشعب…! والمسؤول السياسي الذي يخاف من شعبه، يفقد كرامته وشرعيته، ومبررات وجوده في منصبه. نعم، لقد كانوا خائفين من شعبهم المنتفض، الثائر عليهم، والذي أعلن بالفم الملآن أنه لا يريدهم كلهم، «كلن يعني كلن»، ولا يريد حكومتهم المبجلة التي لا تمثل شيئاً من تطلعاته وآماله.
لقد شهد لبنان منذ إنشائه في عام 1920، خضات سياسية كثيرة ولكنها لم تزعزع تركيبته، وتوليفته الطائفية العجيبة، كما فعلت هذه الثورة التي كسرت كل الحواجز ووحدت أبناء الوطن من الأقصى إلى الأقصى، جغرافياً وإنسانياً ومطلبياً طارحة صيغة وطن آخر، لا يقوم على الطائفية، والمذهبية، والمحاصصات النتنة. وطن يتساوى فيه كل أبنائه في الحقوق والواجبات. وطن طالما حلمنا به وبتحقيقه نحن جيل الخمسينات والستينات والسبعينات ودفعنا من أجل ذلك ثمنا غالياً.
الثقة بحد ذاتها ليست بمستغربة، ولكن المستغرب هو هؤلاء الساسة الذين يصمُّون آذانهم ويغمضون عيونهم بعنجهية، ووقاحة بالرغم من كل ما حدث ويحدث في الشوارع والساحات، وكأنه على ظهر كوكب أخر. وهم ما زالوا يساومون في ما بينهم على المكاسب، والمناصب، معتبرين أنفسهم فوق القانون والمحاسبة ويتابعون تجارتهم في كل أنواع الممنوعات، والزبالة، وغذاء الشعب، ودوائه. ويتنقلون بين مطارات العالم ومدنه لتتبضع زوجاتهم وبناتهم، بطائرات خاصة، لا يملكها حتى رؤساء الدول الكبرى…! إنهم أباطرة، يعتبرون كل شيء في الوطن ملكاً لهم، ومسخراً لخدمتهم. فهم يستولون على الأملاك العامة متى أرادوا، وكيفما شاؤوا، وعلى مرأى ومسمع من الجميع، فتتمدد أراضيهم ذات المساحات المحدودة في البحر، لتصبح بلا حدود. إنهم حقاً آلهة الطوائف والمذاهب، الذين يتحكمون بمصير وطن لا يعنيهم مستقبله، ومستقبل أبنائه كثيراً.
والأكثر غرابة في اعتقادي، هو أن هذه الثورة بالرغم من حيويتها، وكل ما قامت به وأنجزته، فإنها لا تزال تخاف أن تشير بأصابع الاتهام مباشرة، إلى من يقيم دولته داخل الدولة، وفي رحمها، ويمص دمها، ويحمي الفساد والمفسدين بسلاحه. وهي لا تشير أيضاً إلى رأس السلطة، أو رئيس السلطة التشريعية، الذي يستريح على كرسيه منذ عهد آدم. بل تتركهم في أمامكنهم، وعلى كراسيهم، يمسكون بسيف الطائفة والمذهب، ويذبحون الوطن به، فالتغيير إذا لم يبدأ برؤوس السلطة، فهو مجرد عملية ماكياج للغول، الذي سيبقى غولاً، مما يعني بقاء الوجوه والطبقة السياسية نفسها التي لم يعرف لبنان على مرِّ تاريخه أفسد منها، إنسانياً وسياسياً ومالياً وأخلاقياً.
والأغرب من كل ذلك في اعتقادي، كان في إقحام رجال الدين أنفسهم في عالم السياسة، واضعين خطوطهم الحمراء للحفاظ على المناصب الطائفية وهيبتها، في جسم الدولة المهترئ والمتعفن. وهو أمر غير مبرر على الإطلاق، خصوصا في وقت كان فيه الشعب يملأ الساحات، باحثاً عن وطن حداثي على مقاسه، رافضاً لوطن العبودية للزعيم، والمذهب والطائفة، فكان ذلك مسماراً في نعش ثورة تريد التغيير، ووقف الفساد، والنهب والسرقة. ولا أدري كيف سيبررونه يوما في عظاتهم، وخطبهم العصماء، التي تستهجن الفساد على أنواعه، والسرقة والنهب، وتدعو إلى الأخلاق والفضيلة والأمانة والحرية، وأي مصداقية سيكون لكلامهم بعدها…؟!

خطوط حمراء

ليت صاحب الغبطة البطريرك يأخذ ممحاة، ويمحي ذلك الخط الأحمر الذي وضعه حول سدة رئاسة الجمهورية، حتى لا يُكتب في كتب التاريخ يوماً، أن الكنيسة وقفت إلى جانب الفاسدين، وحمتهم، ووقفت في وجه تطلعات الشعب، في الخلاص منهم متحالفة مع الإقطاع والفساد السياسي كما كانت قديما. أما صاحب السماحة، مفتي الجمهورية، وخطوطه الحمراء فإنها ذهبت هباء بعدما دفع حزب الله بألعوبته التي أعدت على نار هادئة إلى مقدمة المشهد السياسي، متحدياً كل خطوط سماحته، وبيانه العرمرمي. وكان حرياً بصاحب السماحة أصلاً، أن لا يمسك بالقلم الأحمر، كي لا يضع نفسه في مثل هذا الموقف.
ولا أستغرب في ما أستغرب هذا الهدوء، الذي بدأ يسيطر على الساحات منذ أيام. لأنه يبشر بلا شك بأن القادم أسوأ. وأن أي حادث، ولو كان بسيطاً، قد يفجر الأمور التي قد تفلت هذه المرة من أيدي الجميع نهائياً، بسبب حالة اليأس التي يشعر بها المواطنون، بعدما أوصدت في وجوههم أبواب الأمل في التغيير، وأن ارتدادات هذه الثورة، قد تكون في المرحلة المقبلة أعنف، وأشد مما هي عليه اليوم، خصوصا إذا ما واصل الساسة صمّ آذانهم ومتابعة مشاريع فسادهم وعمولاتهم، في الوقت الذي أخذت فيه الاحتجاجات تكسب تعاطف شرائح، كانت تعتبر إلى وقت قريب من فئة الخاضعين للساسة، وللمذهب، وللطائفة. وهذا في حد ذاته لا يستهان به على الإطلاق، في تركيبة مجتمع كالمجتمع اللبناني، لأنه سوف يشكل حجر الزاوية في أحداث الأيام القادمة.
لقد آن للساسة أن يدركوا أن كثيراً من الثورات لم تربح معركتها من الجولة الأولى، وأن حراك بعضها دام سنوات إلى أن حققت انتصارها، وأن الثورات لا تموت، وتصبح نسياً منسياً، طالما أن الشعب الذي قام بها حي. وأن الثورات تحمل في جيناتها ديناميكية ذاتية، تشكل رعباً، يبقى سيفاً مسلطاً على رقاب الساسة، الذين قامت الثورة في الأساس للقضاء عليهم ولتغييرهم.

*كاتب وباحث لبناني – القدس العربي

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.