رسالة الميلاد من بيروت إلى شعوب العالم – لورا مقدسي

أكتب إليكم من بيروت، أي من جهنّم – كما أسماها رئيس البلاد قبل شهرين ونيّف، في معرض حثّه القوى السياسيّة عندنا لتسهيل تأليف الحكومة.

مواضيع متعلقة

ورئيسنا لم يكذب. نحن كنّا في جهنّم، وها نحن ننزلق إلى الطبقات الدنيا منها، لتضربنا بسياطٍ من نار وتشوي لحمنا ونحن أحياء.

السيسي يرحّب بتطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل: «خطوة هامة» للمنطقة
منذ 12 دقائق

مجلس النواب يمدّد العمل بالموازنة الحالية تجنباً لحصول «إغلاق»
منذ 3 ساعات
والحكومة التي استعجل الرئيس تشكيلها لم تتألّف بعد. لا في المرّة الأولى ولا في الثانية. لا نعرف الأسباب بتفاصيلها القبيحة، لكنّنا نميل إلى الاعتقاد أنّ ثمّة من قرّر أن يقذف بنا إلى عنق زجاجة، ويتركنا هناك نختنق.

أكتب إليكم من جهنّم، فلعلّكم مع اقتراب أعياد الميلاد تصلّون لمخلّص يخلّصنا، بعدما سكتت حكوماتكم عن الظلم اللاحق بنا. والساكت عن الحقّ شيطان أخرس.

حين تزيّنون ساحاتكم، وواجهات نوافذكم، وترتبّون هداياكم تحت الشجرة المتلألئة بشموع الميلاد، تذكّروا أنّ سانتا كلوز لن يزورنا هذا العام. فهذا الرجل الآتي بفرح الأطفال ليمنح أطفال العالم ابتساماتٍ ودهشة، يخاف المدن المسكونة بالأشباح.

وبيروت التي دمّرها انفجار الرابع من أغسطس، وأودى بمينائها وأحيائها المأهولة، وقتل أطفالها وشبابها، لا تزال تحت الركام. حكوماتكم أرسلت، مشكورةً، مساعدات فوريّة إلى المنكوبين، وزارنا بعض مسؤوليكم تعبيراً عن التعاطف. استبشرنا خيراً، خصوصاً بمبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي نزل إلى الشوارع، وتحدّث إلى الناس ووعدهم بأنّه لن يتركهم أبداً.

وها قد مضى أربعة شهور على الزيارة والوعد، ولم يتغيّر شيء. تلاشى الوعد واغتيلت المبادرة.

أربعة شهور مضت ونحن لا نعرف من دمّر مدينتنا وقتل أطفالنا في سكينة بيوتهم. طالبنا بتحقيق دولي إجلاء للحقيقة، فرفض مسؤولونا الطلب بحزم، ووعدونا بالكشف عن المرتكبين والفاسدين والمهملين الضالعين في قضيّة تكديس آلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم في مرفأ تجاري.

ربّما لم يعد مهماً، بعد شهور من المماطلة والتمييع ما قد يخرجون به علينا من نتائج. فنحن على بيّنة من أمر واحد: من دمّر مرفأ بيروت، أراد أن يدمّر هوّية بيروت ودورها في المنطقة العربيّة. أراد أن يطفئ تلك المنارة ويشلّ حركة الميناء الذي لم يتوّقف عن العمل في أقسى ظروف الحرب والحصار. وما التطورات الإقليمية التي تتكشف شيئاً فشيئاً، إلّا حلقة من حلقات هذا المسلسل الجديد الذي ضاق ذرعاً بمرفأ لا يتعب، ومدينة تربّعت طويلاً في قلوب العرب وكانت مصنعهم ودار نشرهم، ومستشفاهم وجامعتهم ومدينتهم الإعلامية ومنتجعهم السياحي.

أيّها الأصدقاء في العالم، حين تحتفلون خلال أسابيع قليلة بحصولكم على لقاحات ضد «كوفيد – 19»، تذكّروا أن هناك بلاداً عصيّة على اللقاح. فالكورونا السياسية والاقتصاديّة المستفحلة في بلادنا، لا ينفع فيها أيّ علاج.

نعرف أنّكم عانيتم، أنتم أيضاً. قتلكم هذا الفيروس اللعين، وقتل خيرة أطبّائكم وممّرضيكم. سجنكم في منازلكم، عطّل دورة الإنتاج وضرب الاقتصاد. أصاب العديد منكم بالهلع، والملل، ووضعكم أمام تحدّيات جسام بسبب فيروس خبيث غير مرئي.

قد تعود الحياة قريباً إلى طبيعتها في شوارعكم ومقاهيكم، ويتنفّس الأطبّاء والممرّضون الصعداء، بعد صراع استنزف طاقاتهم الجسديّة والفكريّة والمعنويّة. بعضكم سيبقى حذراً إلى حين، ويرفض أن يصدّق أنّ الفيروس مات. وآخرون سيحتفلون بنهاية الكابوس إلى آخر رمق، وآخر صباح ومساء.

أمّا نحن، فقد يصلنا اللقاح ويتحصّن بعضنا به، ولكن من دون فرحٍ عظيم.

الكورونا التي عندكم قتلت بضع مئات بل وآلاف، أمّا التي عندنا فتقتل شعباً كاملاً. دخلت إلى بلادنا قبل 30 عاماً، متلبّسة بمنظومة حاكمة عاثت فساداً في طول البلاد وعرضها. صادرت السلطة، استعبدت أهلنا، واستنزفت خيراتنا. حوّلت الوطن إلى شركة تجارية تستعطي المساعدات والاستثمارات، وتقوم بتبذير الأموال المرصودة في مؤتمرات المانحين في مشاريع غير مجدية، وهدر ومحسوبيّات وسرقات واضحة وضوح عين الشمس، إلى أن أوقعتنا في ديون فاقت المئة مليار دولار، وجعلت من «باريس الشرق» بلاداً منكوبة.

نحن في دولة ما عادت تقوم خلاياها بالوظائف التي ينبغي عليها أن تقوم بها. فلا رئيس البلاد يملك حريّة التصرّف، ولا رئيس الحكومة ولا الوزراء أو النوّاب. جميعهم خاضعون لزعماء نصّبهم «اتفاق الطائف» أولياء على أمورنا. هم «عصابة الستّة» الذين يتقاسمون المغانم والمشاريع والوظائف والإدارات. هؤلاء تناسلوا الفساد من خلال أبنائهم وأحفادهم وأزواج بناتهم وجيرانهم وعشيرتهم حتى بات عددهم يتجاوز أعداد النجوم في سمائنا، وحبّات الرمل على شواطئنا.

هؤلاء ليسوا أحراراً في قراراتهم، ومشاريعهم ومصادر أموالهم، بل ينتمون بدورهم إلى أولياء نعمتهم في الخارج. ولا يتردّدون في فتح معارك جانبيّة، سياسيّة وعسكريّة وتشريعيّة وماليّة إرضاء لهذه الدولة أو تلك. وبعضهم قد يذهب بعيداً فيدفع بالبلاد والعباد إلى أتون الصراعات المشتعلة في المنطقة العربيّة ويجعل من أرضنا وحياتنا ورفاهية أولادنا رقعة شطرنج في لعبة الأمم.

نحن في وطن ملعون. اللعنة إذا انفتحنا على الشرق، واللعنة إذا تبعنا الغرب. إيران تحتلّنا وتأخذنا رهائن في صراعها مع الولايات المتّحدة وأوروبا. وأميركا تحاصرنا. تمنع تدفّق الدولار إلى مصارفنا، تضع شروطاً قاسية لنجاح مفاوضاتنا مع صندوق النقد الدولي، وتطالب بإصلاحات في الإدارة والقضاء والقطاع المالي والمصرفي.

نعم. نحن أيضاً نريد هذه الإصلاحات. نحن أيضاً نطمح لدولة القانون والمؤسّسات، للمواطنة القائمة على الحقوق والواجبات، وليس تلك القائمة على التبعيّة لزعماء «العصابة الستّة».

ولكن نحن جائعون. منهكون. خائفون. العملة الوطنية فقدت ثمانين في المئة من قيمتها، والتضخّم بلغ مستويات غير مسبوقة. فقط فنزويلا تسبقنا عالمياً. مؤسّساتنا أغلقت أبوابها. نصف الشعب اللبناني عاطل عن العمل، والنصف الآخر يهاجر. بعضهم يصل إلى شواطئكم، إلى بلاد السعادة المترفة، وبعضهم يقضي غرقاً في البحر المتوسط.

مدّخراتنا تبخّرت. الدولارات التي جمعناها بعرق الجبين لضمان الشيخوخة والعيش الكريم، لم تعد موجودة إلّا في الأحلام. نعيش على فتات الليرة اللبنانية بالمقدار الذي يسمح به السلطان، وسعر الصرف الذي يحدّده لنا. ونحن لا نملك إلّا أن نوافق. لا لشيء، إلّا لأن ليس باليد حيلة.

خرجنا إلى الشوارع، وطالبنا بإسقاط النظام والمنظومة بالكامل. قلنا لهم إنّهم فاسدون، وكلّهم يعني كلّهم، من دون استثناء. لكنّهم اغتالوا الثورة وفرّقوا الثوّار. أرسلوا زعرانهم لمطاردتنا وضربنا بالهراوات، وقام عناصر من القوى الأمنية بإطلاق الرصاص المطّاطي على شبابنا، وفقأوا عيونهم. كما لو أنّهم لا يهابون المحاسبة القانونية. كما لو أنّهم قصدوا ضرب الثورة عن طريق تحويلها إلى حفنة من عميان البصر والبصيرة.

ننتمي إلى بلدٍ ملعون

لعنة إسرائيل من الجنوب، ولعنة سورية من الشرق والشمال. نناضل سنوات مديدة، بالكلمة والسياسة والسلاح، من أجل إخراج إسرائيل من بلادنا، فتستبيحنا سورية. ونناضل من أجل إخراج سورية، فتحتلّنا إيران. احتلالات بالجملة، ولعنات مُطبقة، لا قيمة، إزاءها، لحيرتنا. فحين نطالب بتسليم سلاح «حزب الله» إلى الجيش اللبناني، تقوم الدنيا ولا تقعد. الديماغوجيون يتهموننا بالخيانة ويلعبون على مخاوفنا من إسرائيل التي، والحقّ يقال، تملك سجلًّا حافلاً من الاعتداءات على أرضنا، ومياهنا وعلى حياة المدنيين.

وبين مطرقة إسرائيل وسندان سلاح «حزب الله» الذي تحرّكه إيران، تنتفي حريّة التفكير والتعبير بالمطلق، وتتسمّم عقولنا وأفكارنا بمشاعر الذنب واليأس لعجزنا عن التحرّر من هذه الدوّامة، لعدم قدرتنا على الخروج من عنق الزجاجة.

أيّها الأصدقاء في العالم،

بلغ عمر جمهوريّتنا قرناً من الزمن. في النصف الأول منها، كنّا شعباً فخوراً بنفسه وبلاده الصغيرة جغرافياً، والعظيمة فكراً وحضارة وثقافة. أدمغتنا، موسيقانا بلغت العالم، وأنتجت فكراً جميلاً، بجمال هذا الكوكب. كنّا نتقن صناعة السعادة وابتكار فنون السحر والافتنان، وكنّا نصدّرها إلى العالم، انطلاقًا من قناعتنا أنّ السعادة المشتركة سعادة مضاعفة.

ثمّ، اشتعلت الحرب في ديارنا، وهي في بعدها الخارجي لم تكن منفصلة عن وجود إسرائيل على حدودنا، والمنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة على أراضينا. صحيح أنّنا لم نشارك في حروب العرب ضدّ الصهيوني المحتلّ، لكنّنا دفعنا ثمناً باهظاً في حرب استمرّت 15 عاماً. حرب دمرّت الحجر والبشر وهجّرت مليون إنسان خارج البلاد.

كلّ هذا يحدث لنا، ومنظومتنا الحاكمة لا تحرّك ساكناً. كأنّهم حفنة جثث محنّطة في لباس رسمي، ليس لديهم ما يفعلون في جمهوريتنا غير السعيدة سوى أن يختلفوا على جنس الملائكة، وتقاسم الوزارات في ما بينهم، وتقاسم الأدوار، وذرّ الرماد في العيون. الانهيار المدوّي يجرفنا إلى سابع أرض، والمهرّجون عندنا لا يبالون.

أيّها الأصدقاء في العالم،

أنتم تستعدّون بفرح لاستقبال أعياد الميلاد، ونحن نبحث، مع كلّ صباح، عن جدار جديد نضرب به رؤوسنا. نحاول أن نجد وسيلة لنخرج من عنق الزجاجة، ونتنفّس من جديد.

نستحلفكم أن تساعدونا. اضغطوا على حكوماتكم، وعلى الأمم المتّحدة، التي نحن من مؤسّسيها، كي تبادر بخطوات تليق بحجمها. استعجلوهم في خططهم الجديدة لتقسيم النفوذ في الشرق الأوسط لعلّنا نستريح من هذا التيه، ونعرف وجهتنا ومصيرنا. لا نريد مساعدات إنسانيّة. ساعدونا كي ننجو من قبضة طغمة اللصوص الذين هرّبوا أموالنا إلى مصارفكم. رشّوا رذاذاً من الأوكسيجين في هوائنا كي نتنفّس، وننتصر على يأسنا.

الحياة عندنا باتت احتمالا هشاً. سيقانها من خشب، وقلبها علقم.

صلّوا لأجلنا ليلة الميلاد. فلعلّ مخلّص العالم يخلّصنا من هذا الجهنّم.

لورا مقدسي

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.