“أصبح الاكتئاب صديقي الوحيد”
تشير التقارير الدولية التي نشرت في الأعوام الأخيرة إلى تدهور الصحة العقلية والنفسية عبر مختلف أنحاء العالم بين مختلف الفئات العمرية والجندرية، وإن كان الشباب هم الفئة الأكثر تضررا وفق تلك التقارير.
وتقول منظمة الصحة العالمية إن أوضاع الحالة العقلية للأشخاص عبر أنحاء العالم مقلقة للغاية، وإن وباء كوفيد-19 تسبب في تفاقم حالات مثل الاكتئاب والقلق المرضي. وتقدر أحدث تقارير المنظمة أن حوالي مليار شخص (أي أكثر من واحد من بين كل ثمانية أشخاص) حول العالم يعاني من إحدى مشكلات الصحة العقلية، ويأتي الاكتئاب والتوتر المرضي في مقدمة تلك المشكلات. وتشير منظمة الصحة إلى أن عدم فهم حالات الصحة العقلية ووصمة العار المحيطة بها تحول دون تعرف الأشخاص على تلك الحالات لديهم أو لدى الآخرين، ومن طلبهم للمساعدة.
وقد أشار تقرير “الحالة العقلية للعالم” (The Mental State of the World Report) لعام 2023 الذي شمل 71 دولة إلى أن تدهور الصحة العقلية الكبير الذي شهده العالم بين عامي 2019 و2021 لا يزال مستمرا ولا توجد أي إشارة على انحساره.
كما أشار التقرير إلى أن الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 عاما أكثر عرضة بكثير للإصابة بمشاكل الصحة العقلية مقارنة بالأجيال الأكبر سنا. وقد حلت بعض الدول العربية في المراتب الأخيرة على صعيد الصحة العقلية، ومن بينها العراق واليمن وتونس ومصر.
وتحدثت وسائل إعلام مصرية عن زيادة في السنوات الماضية في المشكلات والاضطرابات النفسية والعقلية. من الأسباب التي حدثنا عنها الكاتبة وأستاذة علم الاجتماع المصرية الدكتورة أمل رضوان، الأزمات والصدمات والأحداث العالمية الصعبة مثل وباء كوفيد-19 والحروب، “وباء كورونا أثر بشدة على الصحة العقلية للناس وخاصة الشباب .. وكذلك المشاكل الأسرية والتربية غير السوية..والتأثير السلبي لمواقع التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية والنفسية.. وتكلفة العلاج الباهظة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة”.
وعن أسباب كون الشباب أكثر عرضة للإصابة بمشاكل الصحة العقلية، تقول الدكتورة أمل إن ذلك يرجع إلى “عدم اكتمال نضجهم النفسي والعقلي وكذلك ظروفهم المعيشية أو عدم الاستقرار الأسري أو التمييز والإهمال، أو عدم حصولهم على الدعم والمساندة، إلى جانب خوفهم من المستقبل في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة”.
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، تواجه مصر عدداً من التحديات في مجال الخدمات الطبية النفسية. تشير المنظمة إلى أن أغلب الموارد تخصص لعدد قليل من مستشفيات الطب النفسي المركزية الكبيرة، لكن عدد الأَسرّة المتوفرة للمرضى لا يزال غير كاف لتقديم الرعاية الإسعافية داخل المستشفى، خاصة وأن 60 في المئة من الأَسرّة يشغلها مرضى لمدد طويلة.
كما أن هناك تحديات أخرى أخبرنا بها بعض المصريين الذين تعرضوا لمشكلات الصحة النفسية والعقلية.
- فيروس كورونا: الوباء أثر بشكل متفاوت على الصحة العقلية والنفسية للأشخاص
- الاكتئاب: كيف يمكن أن نعرف ما إذا كنا مصابين به؟ وما هي طرق علاجه؟
“تبدين بحالة جيدة، فلما الدواء؟”
أصيبت أخصائية العلاج الطبيعي، البالغة من العمر 34 عاما، لمياء بالاكتئاب المصاحب للحمل، كما أنها تعاني منذ سنوات من القلق المرضي عندما تواجه كثيرا من الضغوط الحياتية أو تزور أماكن مزدحمة.
تقول: “أحيانا ما أقاوم هذا الشعور وأحاول مواصلة حياتي بشكل طبيعي، وأحيانا يؤثر على حياتي اليومية ويقلل من إنتاجيتي”.
تضيف لمياء أنها كانت “محظوظة” لأنها توصلت إلى طبيب مطلع على أحدث اتجاهات الطب النفسي، ينصت لها ويعطيها مساحة من الوقت خلال جلسات العلاج دون استعجال، ولا يصف الدواء إلا إذا كانت هناك بالفعل حاجة إليه.
“أذهب إليه منذ ست سنوات، ولم يصف لي دواء إلا منذ عام. كما أنه نصحني بتجريب بعض طرق العلاج والتمرينات الحديثة، مثل التأمل والامتنان وتمارين اليقظة”.
لكن لمياء ترى أن غالبية المرضى في مصر لا يذهبون إلى الطبيب إلا عندما تتطور الحالة، وحينها قد لا تكون هذه الوسائل مفيدة، بسبب “عدم وعي بما يواجهونه من مشكلات نفسية وعقلية”.
إضافة إلى قلة الوعي، تقول لمياء إن ضعف الإمكانيات المادية وعدم تقبل الأهل للفكرة يحولان دون طلب المساعدة الطبية في كثير من الأحوال. “الجيل السابق يجد في ذلك وصمة، أو يعتبر ذلك من قبيل الدلع. حتى في محيط العمل، أسمع تعليقات مثل: تبدين بحالة جيدة، فلما الدواء؟”
لذلك، اتخذت لمياء قرارا بأن “الدائرة الآمنة التي أستطيع أن أتحدث معها عن مشكلاتي هي الزوج والأصدقاء المقربون فقط”.
“شفاء أخي كان أشبه بعودة ميت إلى الحياة”
المعاناة الناتجة عن أمراض الصحة العقلية لا تقتصر على المريض، بل تمتد كذلك إلى الأشخاص المقربين.
وهذا بالضبط ما حدث لطبيبة أمراض النساء، سامية، التي وجدت نفسها مضطرة إلى العناية بشقيقها وإقناعه بالذهاب إلى مستشفى متخصص، بدون دعم عائلي أو مجتمعي يذكر.
“بدأت مشكلات أخي حسام الذي اقترب من الأربعين وهو في أواخر العشرينيات. واجه ضغوطا جعلته منعزلا وعصبيا وغيرت طباعه تماما. ترك العمل، ثم أصيب بهلاوس سمعية وبصرية، وكان يبدو وكأنه يتحدث مع شخص غير موجود”.
تقول سامية إنه نظرا لخلفيتها الطبية، بدأت تشك في إصابته بمرض عقلي، لكنه كان يرفض “بسبب الوصم المجتمعي .. فالمجتع لا يرغب في التعامل مع الشخص بعد خروجه من مصحة نفسية، حتى بين أوساط المتعلمين والأشخاص ذوي الخلفيات الميسورة”.
“الأشخاص المحيطون بي معظمهم أطباء ومتعلمون تعليما جيدا وأثرياء، ومع هذا لا أتحدث عن مشكلة أخي معهم على الإطلاق خشية الوصم الاجتماعي. أستغرب عندما يكتب طبيب على مجموعة على إحدى وسائل التواصل أعضاؤها جميعا أطباء أن لديه قريبا يعاني من متاعب نفسية أو عقلية ويرغب في معالجته، ولكن الأسرة تخشى الفضيحة”.
بعد “محاولات استمرت عامين وإجبار”، دخل شقيقها مستشفى متخصص وتلقى العلاج وتحسن كثيرا بعد السيطرة على ما يعاني منه من أعراض.
“بعض الأشخاص كانوا يظنون أنه تعرض لحسد، وأنه بحاجة إلى الذهاب إلى رجل دين، لكنني رفضت ذلك لعلمي بحاجته إلى علاج دوائي”.
المشكلة الأخرى التي واجهت سامية هي العثور على منشأة طبية جيدة.
“المستشفيات ليست جميعها ذات سمعة طيبة. فهناك شائعات بأن المرضى النفسيين أحيانا يتعرضون للتحرش إذ يكونون في وضع هش بسبب الأدوية المهدئة، وشائعات عن انتحار البعض بسبب جلسات الكهرباء. والمستشفيات الجيدة باهظة التكلفة”.
كما أن غياب الدعم لمرافقي المريض يصعب من مهمتم. “بعد فترة تشعر بالإرهاق، وتحتاج أنت نفسك إلى الدعم. يجب أن يكون هناك دعم لمرافقي المريض”.
“شخصيا، لم أجد دعما ومساندة سوى من فرد واحد من أفراد عائلتي. المسألة ليست سهلة، لا على المريض ولا على المحيطين به، والتعامل بعد العلاج صعب أيضا ويحتاج إلى وعي وتقبل”.
“أصبح الاكتئاب صديقي الوحيد”
أصيب نادر البالغ من العمر 49 عاما باكتئاب ما بعد الصدمة في عام 2011. يقول إن أفراد أسرته وأصدقاءه المقربين كانوا ينصتون إليه بتعاطف ويتفاعلون معه في البداية، لكنهم يتلهون بحياتهم بعد فترة.
“ثم يبدأ هؤلاء في الحكم عليك، يرون أنك لست مكتئبا، بل كئيبا، سلبيا لا ترى إلا الجانب المظلم من الحياة، فيفتر حماسهم للاستماع. كنت في أمس الحاجة إلى من ينصت إلي، لكنني شعرت بفجوة بيني وبينهم. تدريجيا، فقدت الرغبة في الحديث. كانوا يقولون لي أشياء مثل: ‘لماذا لا تصلي؟ لماذا لا تعود إلى الله؟’ بدأت أشعر بالنفور منهم، وألجأ إلى العزلة أياما طويلة بدون رغبة في رؤية أي شخص”.
تقول الدكتورة أمل رضوان إن “الخلط بين المرض النفسي وضعف الإيمان هو خلط يجهل حقيقة أن المرض النفسي شأنه شأن أي مرض عضوي يحتاج إلى علاج ولا علاقة له بقوة الإيمان أو ضعفه، مما يضع المريض تحت ضغط شديد يؤدي إلى تدهور حالته”، وتشدد على الدور الذي ينبغي أن يلعبه علماء الدين والإعلام “في تصحيح المفاهيم ونشر الوعي”.
ومع غياب فهم المحيطين بنادر لحالته ومشاعره، زادت عزلته.
يقول: “أشعر بأنه ليس هناك من يفهمني. أبدأ في الصمت. لا أحد يسمعني سواي. تحدث كمية غير طبيعية من التفاعلات داخلي تؤدي إلى أفكار في كافة الاتجاهات. أخلق عالمي الخاص الذي أتعايش معه رغم ألمه وأدمن هذا الألم. أمر بمرحلة لا أثق إلا في اكتئابي، يصبح الاكتئاب صديقي الوحيد”.
تطورت حالة نادر إلى درجة أنه لم يعد يجد جدوى للنهوض من الفراش أو الاعتناء بنفسه، وبدأ يشعر بأنه لا يستطيع المواصلة.
“أمضيت عاما كاملا أجري أبحاثا عن الأدوية والعقاقير التي أستطيع تعاطيها (للانتحار) بدون أن يُكتشف الأمر بعد وفاتي كي لا يوصم أبنائي بأن أبيهم توفي كافرا”.
حاول نادر الانتحار مرتين. بعد المرة الأولى، تعرض للوم ووصف بالأنانية، وطلبت زوجته الطلاق بسبب ما واجهته من ضغوط جراء تلك المحاولة. يقول: “استجبت رغم حبي لها. حدث لي انهيار، وحاولت الانتحار مرة أخرى، واستمر شعوري بالاكتئاب”.
يضيف نادر أنه استأجر شقة في قبو أحد المباني قضى فيها عامين لا يغادرها إلا للقيام بعمل يكفي لإعالة أبنائه لفترة من الوقت، ثم يعود ثانية للوحدة.
“كنت أعرف أنني يجب أن أذهب إلى طبيب نفسي، لكني كنت أخشى هذه الخطوة وأخشى أن يصدر أحد حكما علي”.
أخيرا أقدم نادر على هذه الخطوة في عام 2020، ومثله مثل لمياء، يقول إنه كان”محظوظا” لأنه عثر على طبيب ماهر “على الاستعداد للاستماع لي، ولا يمانع أن أتصل به في أي وقت إذا احتجت إلى جلسة استثنائية”.
تحسنت حالة نادر الصحية ولم يعد بحاجة إلى جلسات دورية.
يشدد على أهمية الوعي باللجوء إلى طبيب نفسي، ويقول إنه رغم قلته، فإنه “قادر على أن يتسرب إلى الجميع ولو ببطء. ابني الأوسط البالغ من العمر 15 عاما طلب مني مؤخرا أن يزور طبيبا نفسيا. واضح أن الأجيال الجديدة معدل سريان الوعي لديها أسرع وأسهل، خاصة مع وجود الإنترنت وسهولة تداول المعلومات”.
*جرى تغيير أسماء الأشخاص الذين شاركوا تجاربهم بناء على رغبتهم.
- “تراجع شعوري بالوحدة بعد الوباء”
- كيف تؤثر الأفكار السلبية على صحتنا النفسية؟
- “زوجي كان يرفض ذهابي لطبيب نفسي قائلا إن المجانين فقط هم من يحتاجونه”
Comments are closed.