كيف تمكنت أغنية من إيصال رسالة أمل سرية لرهائن في كولومبيا؟
حققت أغنية “أيام أفضل” التي بثت عبر موجات الأثير في كولومبيا في صيف عام 2010، نجاحا وانتشارا كبيرين بفضل كلماتها الجميلة وموسيقى البوب الجذابة، لكن الأغنية كانت تتضمن أيضا رسالة سرية بغاية الأهمية.
ولم يتحدث الأعضاء في فريق إنتاج هذه الأغنية، قط عن هدفها الحقيقي، إلا بعد رفع السرية عن ملفات شديدة الأهمية، تتعلق بالرسالة التي دمجت ضمن اللحن الخفيف.
خلال النزاع المسلح المرير الذي دام لأكثر من 50 عاما في كولومبيا بين القوات الحكومية وحركة “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” (فارك) ارتكبت فظائع من كلا الجانبين.
وانخرطت في الصراع مجموعات مسلحة من أقصى اليسار وأقصى اليمين، إلى جانب عدة عصابات إجرامية. وفي بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبح الاختطاف واحتجاز الرهائن استراتيجية رئيسية لجأت إليها (فارك) للحصول على الأموال اللازمة لتسليحها وتمويل نفسها.
وغالبا ما كان الجنود وضباط الشرطة هم الأهداف الرئيسية لعمليات الاختطاف.
ويقدر المركز الدولي للعدالة الانتقالية في كولومبيا أن 21396 شخصا قد اختطفوا أثناء النزاع.
من أم مراهقة وعاملة منجم فقيرة إلى منصب نائبة الرئيس
ثلاثون مليون عربي في أمريكا اللاتينية: ما حكايتهم؟
وعانى الرهائن الذين كانوا يعتقلون في معسكرات سرية في أعماق الغابات الكولومبية من ظروف سيئة جدا، كفيلة بأن تجعل أي شخص يفقد الأمل في النجاة يوما.
ويقول الميجور جنرال (اللواء) المتقاعد لويس هيرليندو مينديتا أوفال، الذي كان محتجزا لدى القوات المسلحة الثورية الكولومبية طوال 12 عاما من عام 1998 إلى عام 2010، “كانت الملاريا مشكلة كبيرة، وكانت حشرات القراد في كل مكان. وحين تكون جالسا، أو تحاول الحصول على قسط من النوم، فهناك النمل الذي يأخذ بالزحف على جسمك”.
ويضيف “كانت هناك الفطريات أيضا، وبسبب الرطوبة العالية، كانت الفطريات تنمو في المناطق الحميمة من أجسادنا، ولم تكن لدينا أدوية لعلاجها”.
كانت مهام إنقاذ الأسرى محفوفة بالمخاطر، وزادت التضاريس الجبلية من صعوبتها، وقد أمضى بعض الرهائن من القوات الحكومية عدة سنوات في الأسر كما حصل مع الجنرال مينديتا.
وأدرك الكولونيل خوسيه إسبيجو، الذي كان ضابط اتصالات بالجيش الكولومبي في ذلك الوقت، أهمية المحافظة على الروح المعنوية لدى الأسرى من القوات الحكومية، لكي تنجح عمليات إنقاذهم.
ويقول “كنا نرغب بشدة في أن نمنح الرهائن العسكريين شيئا يمكنهم التمسك به، رسالة أمل تحافظ على روحهم المعنوية وقوتهم، لكي يتمكنوا من التفكير في إمكانية الهروب إذا ما أتيحت لهم الفرصة”.
وقرر الكولونيل العمل خارج القواعد والسبل العسكرية المعتادة من أجل إيصال هذه الرسالة، وتوجه بدلاً من ذلك إلى خوان كارلوس أورتيز، الرئيس التنفيذي لوكالة إعلانات.
القبض على أخطر تاجر مخدرات في كولومبيا
قصة الاسكتلندي الذي استؤجر لقتل قطب المخدرات بابلو إسكوبار
كانت حملة إعلانات مكافحة المخدرات، التي أشرف عليها أورتيز ومولتها الحكومة، قد أثبتت نجاحا وفازت بجائزة مرموقة في مجال الابتكار، ولكنها أثارت أيضا انتباه حركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية التي كانت تجارة الكوكايين تشكل بالنسبة لها مصدرا كبيرا للدخل، وكذلك عصابات مقاتلة أخرى.
وتلقى أورتيز تهديدات بالقتل من هذه الأطراف، واضطر إلى الفرار إلى الولايات المتحدة مع عائلته بحثا عن السلامة ولكي يبدأ حياة جديدة هناك. لكنه قرر هو وفريقه خوض التحدي للتوصل إلى طريقة قادرة على إيصال رسالة أمل إلى الرهائن.
وكانت معلومة ذكرت خلال لقاء بين أورتيز وفريقه وبين ممثلين عن الجيش الكولومبي، سببا في إلهام فكر مبتكرة.
ويقول “أخبرونا أن الجنود الكولومبيين يتعلمون شفرة المورس ضمن برنامج تدريبهم الأساسي”.
ويضيف “فكرنا: حسنا، كيف يمكننا التواصل معهم عبر شفرة المورس؟ وفي تلك اللحظة برقت الفكرة”.
كان التواصل بين الرهائن الموجودين في أعماق الأدغال والعالم الخارجي شبه مستحيل، ويقول المدير الإبداعي، ألفونسو دياز، إنهم أدركوا أن الوسيلة الوحيدة للتواصل مع الأسرى هي عبر موجات الراديو.
ويوضح دياز قائلا “خلال تلك الحقبة، أطلق الصحفي هيربين هويوس، الذي قام بالكثير من أجل مساعدة جميع الرهائن، برنامجا بعنوان ‘أصوات المختطفين’ بهدف تقليل شعور الأسرى بالعزلة عن طريق بث رسائل موجهة لهم من قبل أحبائهم”.
كان هويس، الذي توفي عام 2021 بسبب فيروس كورونا، يدرك جيدا مشاعر المختطفين، فقد سبق له أن كان رهينة لدى (فارك). وكان برنامجه بمثابة شريان الحياة للكثيرين خلال سنوات من إذاعته، وبدا أنه منصة مثالية لبث الرسالة عبره للمرة الأولى.
يقول دياز إنهم فكروا في البداية بتضمين شفرة المورس في نكتة، بحيث تبدو إشارات المورس كأنها مجرد أصوات بديلة لكلمات بذيئة غير مناسبة لتقال على الهواء. لكن الفكرة لم تكن جيدة بما يكفي، ثم خطرت له فكرة الاستعاضة عن النكتة بأغنية.
كيف تحولت “أخطر مدن العالم” إلى قبلة للسياح؟
شاب يؤسس منصة تعليم عالمية يعدها البعض “بديلا للتعليم الجامعي”
ويقول منتج الصوت كارلوس بورتيلا إنهم فكروا في البداية باستخدام “موسيقى فاليناتو التقليدية أو السالسا المبهجتين” في لحن الأغنية، لكنهم أدركوا أن هذا قد يتسبب في “شرود ذهن المستمع”. لذلك قرروا أن تكون الأغنية بلحن عاطفي وكلمات رقيقة وهادئة، لكي يسهل على الرهائن إدراك رموز المورس المخفية داخلها.
يقول دياز، الذي كتب كلمات الأغنية بالشراكة مع بورتيلا، “تتحدث كلمات أغنية ‘أيام أفضل’ عن القلب، عن المرونة والقوة اللتين بنفس الوقت يجب أن يمتلكهما الرهائن لكي يتمكنوا من الصمود وعدم الاستسلام لليأس عندما يكونون بمفردهم”.
ولكي تحقق الأغنية نجاحا وانتشارا وقع الاختيار على مغني الروك أنجيلو، الذي برز في النسخة الكولومبية من برنامج المواهب “إكس فاكتور”، والمغنية والممثلة ناتاليا غوتيريز، لكي يؤدياها.
وأجرى بورتيلا والملحن والمنتج ومهندس الصوت أموري هيرنانديز، كثيرا من الأبحاث حول شفرة المورس، بما في ذلك عدد الكلمات في الدقيقة التي يمكن للشخص حلها. وقررا الاستعانة بمولد أصوات موسيقية لتوليف ترددات متكررة ضمن اللحن للمساعدة على تمويه الرسالة.
أدخلت رموز المورس في ثلاثة مواقع مختلفة من الأغنية، وقرر الفريق إرسال رسالة بسيطة واحدة ومتكررة، تقول “تم إنقاذ 19 شخصا. أنت التالي. لا تفقد الأمل”.
أصبحت الأغنية جاهزة بعد ثمانية أشهر من العمل، وبثت للمرة الأولى عام 2010 ضمن برنامج هويوس “أصوات المختطفين” وتناقلتها المحطات الإذاعية الأخرى، وكانت تبث عبر أكثر من 130 إذاعة محلية في جميع أرجاء كولومبيا.
يقول أورتيز “استمع إلى أغنية ‘أيام أفضل’ ملايين الأشخاص، لكن هذا لم يكن هدفنا. كان النجاح بالنسبة لنا أن تصل الأغنية إلى مجموعة محددة من الأشخاص، أن يسمعوها هؤلاء ويفهموها”.
ساعد الجنرال مينديتا، الذي كان قد أنقذ من الأسر في ذلك العام في إنجاح المهمة، إذ وجه في بث مباشر عبر شاشة التلفزيون رسالة إلى قيادات “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” يطلب منهم السماح للرهائن بالاستماع إلى الراديو كنوع من كسر الإحساس بالوحدة.
وقال فيها “قال أحدهم من لديه كتاب ليس وحيدا، وفي حالتنا، يمكن القول من لديه جهاز راديو ليس وحيدا”.
ولكن كانت هناك مخاطرة محتملة لبث الأغنية، إذ من الممكن أن تتوصل “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” أيضا إلى فك تشفير الرسالة السرية.
إلا أن الهدف كان أهم. ويقول الكولونيل إسبيجو “عندما يؤخذ بالاعتبار أن الرهائن يواجهون احتمال الموت في الأدغال بعيدا عن عائلاتهم، فإن المخاطرة في مجال الاتصالات كانت قرارا صحيحا وهاما”.
ولم تبدأ تقارير المعلومات الاستخبارية بتأكيد نجاح خطة الأغنية إلا بعد إطلاق سراح رهائن خلال الأشهر والسنوات القليلة التالية.
يقول الكولونيل إسبيجو إن أحد الرهائن الذين تم إنقاذهم تحدث عن سماعه رسالة شفرة المورس، ونقله معناها إلى زملائه من الأسرى، وتأثير ذلك على وضعهم النفسي.
يقول بورتيلا “عندما وصلتني الأخبار عن نجاح مهمة الأغنية، خرجت إلى الشارع أمشي بشعور عارم من الفرح، لدرجة أنني لم أكن أستطيع الكف عن الابتسام”.
حافظ الذين عملوا ضمن فريق إنتاج الأغنية على سرية المعلومات المتعلقة بها، ومشاركتهم فيها حتى وقت قريب جدا.
وتقول المغنية والممثلة ناتاليا غوتيريز “هل تصدق أن أفراد عائلتي لم يكن لديهم علم؟ لم اخبرهم بأي شيء طوال سنوات بسبب البند المتعلق بالحفاظ على السرية”.
وحققت الأغنية نجاحا فنيا كبيرا، ونال الفريق الفني الذي يقف خلفها جائزة الأسد الذهبي في مهرجان كان ليونز الدولي للإبداع.
لقد تغير المشهد السياسي بشكل كبير في كولومبيا منذ أن بثت أغنية “أيام أفضل” للمرة الأولى.
وفي عام 2016، وقعت الحكومة الكولومبية وحركة “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” (فارك)، اتفاق سلام تاريخي تم التوصل إليه بعد نحو 4 سنوات من المفاوضات المتعثرة.
وتم بموجب الاتفاق نزع سلاح الآلاف من المسلحين التابعين للحركة. لكن البلاد لا تزال تعاني من أعمال العنف بسبب وجود جماعات مسلحة أخرى، وانتشار تهريب المخدرات على نطاق واسع.
ولا يزال أمام كولومبيا طريق طويل لتقطعه على درب التصالح الوطني والتخلص من تداعيات الفظائع التي ارتُكبت خلال أكثر من 50 عاما من النزاع المسلح، ومن ضمنها الفظائع التي ارتكبها الجيش.
وهذا ما يجعل الأغنية بالنسبة للكونيل إسبيجو، الذي أصبح الآن متقاعدا، محملة بمشاعر حلوة ومرة. لكن رغم أن “أيام أفضل” تنتمي إلى الماضي، فهي تظل أيضا بمثابة نشيد الأمل الذي يخاطب المستقبل.
Comments are closed.