العبور الجندري: “يوم أجريت العملية نظرت إلى نفسي وقلت لأول مرة: هذا أنا”
أثناء مكالمتنا الأولى، وضع الشاب المغربيـ غالي، شرطا وحيدا لإجراء مقابلة معي: ألا أسأله عن اسمه القديم الذي مُنح له عند ولادته أنثى قبل 27 عاما؛ فهذا الاسم يُعرف بالاسم “الميّت” أو الـ(Dead name) بالإنكليزية.
كان هذا المصطلح واحدا من تعابير ومفاهيم عدة تعرفت عليها أثناء رحلة سريعة إلى بروكسل للقاء الشاب المغربي-البلجيكي “عدن غالي” الذي يعرّف عن نفسه بأنه “أول شخص عربي إفريقي يشارك تجربة عبوره الجندري علنا”.
وأخبرني أن أمّه هي من اختارت اسم غالي لولدها الوحيد.
القسم بالشرف
في عطلة نهاية الأسبوع، كان موعدنا ظهرا في مكان غالي المفضّل “رينبو هاوس Rainbow House”، وهو مبنى صغير يضمّ ثلاثة طوابق، فيه حانة وغرف اجتماعات تدار فيها أنشطة اجتماعيّة وجلسات مع مختصين نفسيين – هناك التقى غالي أول مرة معالجته النفسية، إليزا غوللي، التي أرشدته خلال رحلته. كان لقاؤهما الأول أثناء فترة الوباء، في خريف عام 2020.
التقيتها في ذاك النادي قبل وصول غالي.
إليزا فرنسية في منتصف العشرينيات، أعدّت أطروحة عن “احتياجات المراهقين العابرين جندريا” لنيل درجة الماجستير في علم النفس، وتعمل مع جمعية تنشر التوعية حول مجتمع الميم وتدافع عن حقوقهم.
شرحت لي أن العبور الجندري لا يشترط القيام بأي تغيير جسدي: “فهناك عدة أشكال للعبور؛ قد يكون عبورا اجتماعيا أو طبيا أو بالشكلين معا. ليس هناك شيء إجباري أو أتوماتيكي للعبور”. وتوضّح أنه غالبا ما يلجأ من لديه أسئلة إلى مختص نفسي للحديث عن هويته/ا وبعدها، وعندما يفهم الشخص من هو/من هي، وعندما يتأكد من أنه يريد العبور يناقش مع الخبير النفسي أفضل الطرق المناسبة له.
وهذه الطرق تتضمن تناول الهرمونات (وهي أكثر الطرق شيوعا)، وأحيانا يكون هناك تدخل جراحي يسمّى (Top Surgery) ويتعلق باستئصال الثديين، و”نادرا” ما يلجأ العابرون إلى إجراء جراحة للأعضاء الجنسية، وفقا لإليزا.
عن سبب ذلك توضّح المختصة: “غالبا ما يتردد في وسائل الإعلام أن العابرين خلقوا في الجسد الخاطئ. لكن، إن كان الشخص لا يعاني من مشاكل صحية ومرتاحا في جسده، فالجسد صحيح وجيّد، وهو ليس بالجسد الخاطئ”.
أكثر ما فاجأني أثناء حديثنا، ما علمته منها بخصوص مادة في القانون البلجيكي تنصّ على أنه يكفي أن يقسم شخص بشرفه أنه يشعر أنه ينتمي لجنس مختلف عن ذاك الممنوح له عند ولادته ليتمكّن من تغيّر جنسه واسمه في الوثائق الرسميّة.
ليس بحاجة لأي إثبات – فقط القسم بشرفه.
قمت ببحث سريع على محرك البحث، غوغل، فوجدت أن بلجيكا سبقت معظم الدول الأوروبية بضمان حقوق العابرين منذ سنوات، حتى أن الطبيبة البلجيكية، بيترا دي سوتر، أصبحت عام 2020 أول امرأة عابرة تعيّن نائبة لرئيس وزراء البلاد.
ومثل هذه القرارات السياسية ذات دلالة؛ فقبل أيار/مايو من عام 2019، كانت منظمة الصحة العالمية تصنف المشكلات الصحية الخاصة بالعابرين جندريا، على أنها اضطرابات عقلية وسلوكية – كما كان الحال مع المثلية الجنسيّة.
علما أنه كثيرا ما يخلط كثيرون بين المثليّة والعبور الجندري؛ فالشخص العابر جندريا قد يكون مثليا أو مغايرا. وكانت منظمة الصحة قد أزالت عام 1992 المثلية الجنسية من التصنيف الدولي للأمراض.
وللعابرين علمهم الذي يرمز لقضيتهم وتختلف ألوانه عن علم قوس قزح الذي اعتمده المثليون؛ فألوانه تتألف من الزهري الفاتح واللون السماوي وبينهما الأبيض (دلالة على العبور) ويمكن مشاهدة هذه الألوان أحيانا عند النظر إلى سماء صافية وقت الشفق.
منظمة الصحة العالمية: التحول الجنسي لا علاقة له بالاضطراب العقلي أو السلوكي
لماذا تساعد هذه المصرية أشخاصا من مجتمع الميم على النجاة من بلادهم؟
كيف استقبل العابرون جنسيا في مصر تصريحات الممثل المصري هشام سليم؟
“أحمر بالخط العريض”
كان غالي ينتظرنا في الغرفة المجاورة، بدا أكثر جديّة مما هو عليه في منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يشارك خلالها تجربته بكثير من التفاصيل، ويتناول بعض المواقف التي يتعرض لها بأسلوب مازح.
علمت من إحدى منشوراته على تيك توك، أن هناك أسئلة لا يفضّل أن يسأله إياها أحد، لأنها تعتبر شأنا خاصا به خاصة أن الأمور المتعلقة بشؤونه الطبية وحياته الجنسية مسائل تخصّه وحده، مثله مثل كل الأشخاص الذين يحافظون على خصوصيتهم بهكذا أمور، لكنه قرر أن يشارك بعض التفاصيل معي لنشر التوعية ببعض جوانب رحلة عبوره.
يقول غالي إنه بدأ بالشعور أنه ذكر منذ سن الرابعة.
وعندما استوضحت من معالجته النفسية عن الفرق بين فضول الطفل، خاصة تجاه ما ليس لديه، وبين إدراكه لهويته الجندرية بعمر مبكّر جدا، قالت: “ليس هناك عمر معيّن لمعرفة هذا الأمر. الأطفال عادة يستطيعون التعبير عن مشاعرهم منذ عمر الثالثة والنصف. لكن غالبا بعمر المراهقة يدرك الشخص أنه عابر”.
بعمر الرابعة عشرة، أصرّ غالي (وكان اسمه لا يزال اسم انثى حينها) على أمه أن تشاهد معه إحدى حلقات برنامج لبناني شهير اسمه “أحمر بالخط العريض” يقدّمه مالك مكتبي، وكانت الحلقة في تلك الليلة عن العبور الجندري. وأخبرني أنه عندما استمع إلى ما قيل في البرنامج تأكد من أمرين: أنه هو نفسه عابر، وأن أمه لن تتقبل أبدا هذا الأمر. فاحتفظ به لنفسه.
وفي سنته السابعة عشرة، قرر تغيير اسمه إلى مالك، وأخبر أصدقاءه المقربين بقراره هذا، فأصبحوا ينادونه باسمه الجديد.
وبعدها بعامين سافر للدراسة الجامعية في العاصمة البلجيكية، بروكسل، التي يحمل جواز سفرها منذ الصغر، وبعد تخرجه حاملا شهادتين واحدة في تخصص مال وأعمال والأخرى في مجال علم نفس، قرر أن يبدأ الحديث مع مختصين ليبدأ مرحلة عبوره.
بعد عام على أخذه هرمون التستوستيرون (الذي تسبب بتغيّر صوته، ونمو شاربه ولحيته، وأثر على دورته الشهرية) أجرى عملية (Top Surgery) أي إزالة الثديين.
عندما سألته عن ألم ما بعد العمليّة، قال لي “يمكن توجعت لأسبوعين، لكن يوم إجرائي العمليّة كانت أجمل يوم في حياتي ربما. قبلها لم أكن أستطيع النظر إلى وجهي في المرآة. لكني يوم العملية نظرت إلى نفسي وقلت لأول مرة: هذا أنا”.
تكلفة هذه العملية باهظة تصل إلى ستة آلاف يورو، في حين تصل تكلفة العملية الثانية التي تتعلق بالعضو الذكري وباستئصال الرحم والمبيضين إلى 60 ألف يورو، كما يقول غالي.
أخبرني أن جمع مثل هذا المبلغ في بروكسل ليس بالأمر المستحيل، فإن عمل بجد قد يتمكن وهو بعمر الثالثة والثلاثين من إجراء هذه الجراحة إن كان لا يزال يودّ إجراءها حتى ذاك الوقت.
كل هذه الأمور تدور في ذهن الشخص الذي يمضي في رحلة العبور الجندري – والتي تستمر أحيانا لسنوات. وتؤكّد المعالجة، أليزا، أن أصعب المراحل التي يمر بها العابر هي مرحلة الانتظار حتى تبدأ مظاهر التغيّر الجسدي (إن كان قرر أخذ الهرمونات)، وأيضا المرحلة التي يقرر فيها الشخص إخبار أهله.
ويبدو أنه غالبا ليس من السهل على الأهل تقبّل خبر قرار الابن أو الابنة بالعبور. تذكرت ما قاله لي زميل مصوّر بريطاني، وكانت ابنة أخيه قد أخبرت والديها للتو أنها عابرة جندريا: “تفاجأ أخي لكنه أكد له دعمه. قال لي بعدها عندما كنا وحدنا: أشعر أني خسرت ابنتي”.
“لا يمكن أن يكون الله خلقنا لنعيش معذبين في أجسادنا”
كان رأي الدين أحد المواضيع التي شغلت بال غالي لفترة من الزمن، فهو يعرّف عن نفسه كمسلم، ويقول “لا يمكن أن يكون الله خلقنا لنعيش معذبين في أجسادنا”، لذا بدأ بالبحث على الإنترنت حتى عثر على عدد من الفتاوى التي أقنعته.
وعند سؤالنا الأزهر عن موقفه من هذا الموضوع، قال الدكتور عبد الهادي زارع، رئيس لجنه الفتوى بالأزهر، إنه لا يمكن إبداء الرأي في هذا الموضوع إلا بفتوى جماعية من هيئة رسمية، والأمر اختصاص طبي أولا. وأضاف “التغيير في خلق الله حرام” أما في حال وجود أعضاء الذكورة والأنوثة معا فيصحح الوضع طبيا ثم يرجع إلى الشرع.
ويبدو أنهذا هو موقف المغرب، بلد غالي، ففي صيف عام 2021، صادق البرلمان على مشروع قانون جديد للحالة المدنية، يسمح بتغيير جنس من يولد حاملا الأعضاء الجنسية الأنثوية والذكورية.
يتذكر غالي النظرات التي وجّهت له في المطار عندما زار بلده المغرب، وكان يحمل جواز سفره البلجيكي الذي كان لا يزال يحمل اسمه القديم وجنسه القديم (أنثى)، في حين كانت ملامح الذكورة قد بدأت تظهر عليه.
“الآن بدّلت كل شيء (اسمي وجنسي) على جواز السفر. لو كنت أعيش في المغرب لكان من المستحيل أن أغير أوراقي واسمي. لن أقول أنه بحياتي لن أتمكن من ذلك.. لكن حاليا لا أستطيع”.
Comments are closed.