عاجل

البطالة ثمن ثقيل يدفعه العالم لكبح التضخم .. جغرافيا الإنتاج تتشكل من جديد

رفع الفيدرالي الأمريكي الأسبوع الماضي سعر الفائدة بمقدار 0.75 في المائة، وهي نسبة أعلى من المتوقع، لكنها باتت ضرورية بعد ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة إلى 8.6 في المائة في مايو الماضي، ليصل ارتفاع الأسعار بذلك إلى أعلى مستوى له في الولايات المتحدة خلال 40 عاما.
لكن تركيز الفيدرالي الأمريكي اهتمامه على مواجهة التضخم، حتى إن نجح في كبح جماحه، فإن هذا سيأتي بثمن ثقيل في جوانب اقتصادية أخرى، ربما أبرزها انخفاض معدلات النمو وزيادة معدلات البطالة، بحيث بات من شبه المؤكد لدى معظم المسؤولين في الاحتياطي الفيدرالي ارتفاع معدلات البطالة خلال العامين المقبلين، مقارنة بما توقعوه في وقت سابق من هذا العام.
وتشير الأرقام المتاحة حاليا بخصوص الاقتصاد الأمريكي إلى أن معدل البطالة بلغ الشهر الماضي 3.6 في المائة، وهذا المعدل يقترب كثيرا من أدنى مستوى بلغتها البطالة في الولايات المتحدة في نصف قرن عندما لامست 3.5 في المائة قبل أن يضرب وباء كورونا الولايات المتحدة في مارس 2020، وكانت التوقعات قبل موجة التضخم الحالية، أن تظل نسب البطالة الأمريكية عند المستويات الدنيا أو أن تنخفض أكثر، وهو ما لم يعد من الممكن تحقيقه، والآن يتحدث جيروم باول رئيس الفيدرالي الأمريكي على أن المعدل الطبيعي للبطالة “ربما يكون أعلى بكثير من 3.6 في المائة”.
وقال لـ”الاقتصادية” الدكتور بيتر هاولي، أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة لندن، إنه “من الواضح، وفقا لتصريحات المسؤولين في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أنهم يسعون للترويج لما يسمى بمعدل البطالة الطبيعي الذي يتوافق مع التضخم المستقر على المدى الطويل، وهذا المعدل الطبيعي سيراوح بين 5 و6 في المائة، لكن المشكلة التي ربما قد تواجه الاقتصاد الأمريكي هو الخشية من ألا تسفر جهود المجلس الفيدرالي عن خفض معدل التضخم في وقت تواصل البطالة الارتفاع، أو أن يتراجع التضخم بمعدل طفيف بينما ترتفع البطالة بما يتجاوز البطالة الطبيعية، وهذا سيوجد كثيرا من المشكلات للاقتصاد الأمريكي والعالمي في آن”.
لكن ارتفاع معدلات البطالة، التي تبدو الآن أحد الأثمان الواجب دفعها للتصدي للتضخم، لا يبدو ثمنا ستدفعه الولايات المتحدة بمفردها، فالمتوقع أن تظل نسب البطالة العالمية أعلى من مستويات ما قبل وباء كورونا حتى 2023 على الأقل، على أن يقدر العاطلون عن العمل على المستوى العالمي بنحو 207 ملايين شخص أي ما يقرب من 21 مليون شخص أكثر مما كان عليه عدد العاطلين عن العمل 2019، وذلك وفقا لبيانات منظمة العمل الدولية.
لا يختلف الوضع تقريبا في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إذ يبدو معدل البطالة مستقرا عند حدود 5.3 في المائة، وهو المعدل نفسه، الذي تم تسجيله في فبراير 2020 قبل الوباء مباشرة، ويقدر حاليا عدد العاطلين عن العمل لدى بلدان المنظمة بنحو 36 مليون شخص، لكن مع ارتفاع معدلات التضخم يتوقع الخبراء أن تأخذ معدلات البطالة في الارتفاع أيضا.
وأوضح لـ”الاقتصادية” الباحث في منظمة العمل الدولية ريتشارد ريبين، أن “وباء كورونا أدى إلى قلب الاقتصاد العالمي رأسا على عقب، بما في ذلك معدلات التوظيف، وأدت الزيادات في الطلب الاستهلاكي في أعقاب فتح الاقتصادات الغنية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى اضطرابات هائلة في سوق العمل، وعلى الرغم من تقلص مستوى البطالة من 214 مليونا العام الماضي إلى 207 ملايين هذا العام، فإن هذا الرقم لا يزال أعلى بكثير من 186 مليون عاطل في 2019”.
ويضيف “آفاق التوظيف لا تزال هشة والطريق إلى التعافي بطيء وغير مؤكد، ويزداد الوضع سوءا مع ارتفاع التضخم، حيث الوسيلة الرئيسة لمكافحته في الوقت الراهن زيادة أسعار الفائدة، بما يعنيه ذلك من خفض النمو وإضعاف التوسع الرأسمالي لدى المستثمرين، ومن ثم زيادة البطالة عن النسب المتوقعة، وزيادة الفترة الزمنية المتوقعة لعودة الأسواق لتوازنها”.
لكن مشكلة البطالة على المستوى العالمي ترتبط أيضا بالطبيعة غير المتوازنة للانتعاش الاقتصادي الذي أعقب تراجع وباء كورونا وفتح الأسواق دوليا، إذ انتعشت العمالة بشكل أسرع في البلدان الأكثر ثراء، ويتضح ذلك من أنه بينما تمثل الدول الغنية خمس القوى العاملة العالمية فقط، فمن المرجح أن تمثل نصف الانخفاض العالمي في البطالة بين نهاية 2020 ونهاية العام الحالي، ويتوقع أنه بحلول العام المقبل، فإن عدد العاطلين عن العمل في جميع البلدان النامية سيبلغ 174 مليون شخص أي أعلى بكثير من الرقم المسجل قبل الوباء والمقدر بـ 157 مليون عاطل عن العمل.
من جانبها، ذكرت لـ”الاقتصادية” الدكتورة إيملي باول، أستاذة التنمية الاقتصادية في جامعة بلفاست، إن “العمال العاطلين عن العمل في البلدان النامية لديهم قدرة أقل بكثير على الحصول على المساعدات الحكومية من نظرائهم في البلدان الغنية، والآن فإن الأساليب المتبعة لمكافحة التضخم ستؤدي إلى إبطاء الانتعاش في سوق الوظائف العالمي ومن ثم زيادة الفقر”.
وترى الدكتورة باول أن هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر في الهيكل العام لسوق العمل الدولي، إذ من وجهة نظرها أن معدلات التضخم المرتفعة مدفوعة جزئيا بنقص الأيدي العاملة في قطاعات ومواقع معينة، وأن الصدمات الشديدة والممتدة في سلاسل التوريد توجد حالة من عدم اليقين في مناخ الأعمال، ويمكن أن تؤدي إلى إعادة تشكيل جغرافيا الإنتاج، بما قد يترتب على ذلك من آثار كبيرة في التوظيف”.
ولهذا يرى الخبراء أن المشكلة الحقيقية، التي يجب التركيز عليها سريعا تتعلق بأن إصلاح سوق العمل العالمية قد يتطلب عدة أعوام، ويترافق ذلك غالبا مع عواقب طويلة المدى، فيما يتعلق بمستوى الدخول والتماسك الاجتماعي، كما أن هذا الوضع يعمق التفاوتات، سواء على المستوى الدولي أو المحلي، ويضعف النسيج الاقتصادي والمالي والاجتماعي لكل دولة تقريبا، بغض النظر عن مستوى التنمية الداخلية، وهو ما يعني أنه لا يجب حل مشكلة التضخم على حساب التوظيف، حيث يمكن أن يوجد ذلك وضعا “كارثيا” يترافق فيه التضخم مع معدلات بطالة مرتفعة، بما يعنيه هذا من الدخول في دوامة من الركود التضخمي قد يصعب الخروج منه لأعوام طويلة وربما عقود.

إنشرها

مسؤلية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

Comments are closed.