لماذا يحاول سجناء مصريون الانتحار في زنازينهم الجديدة؟
“هذه ليست محاولته الأولى للانتحار. ولن تمر بسلام كل مرة، ففي إحدى المرات قد تصيب المحاولة، وسنستيقظ على خبر وفاته”، هكذا تحكي أسماء، وهو اسم مستعار، زوجة أحد السجناء في مصر.
زوجها هو واحد من عشرات السجناء، الذين قالت عنهم منظمات حقوقية ومحامون إنهم حاولوا الانتحار خلال الأسابيع الماضية، اعتراضا على تعرضهم “للتعذيب وعدد من الانتهاكات” في أحد السجون حديثة الإنشاء، والذي يُعرف بسجن “بدر 3″، بينما تنفي السلطات المصرية هذه التهم.
علمت أسماء بالخبر عبر رسائل سربها زملاؤه قبل نحو ثلاثة أسابيع، وتقول إنها لم يُسمح لها بزيارته من ذلك الوقت، رغم حصولها على إذن من النيابة.
وخلال العامين الماضيين، افتتحت السلطات المصرية عددا مما سمته “مراكز الإصلاح والتأهيل”، لتحل محل السجون القديمة، التي طالما تعرضت للانتقادات، باعتبارها متهالكة، وزنازينها غير صالحة للمعيشة.
أحد هذه المراكز هو مركز بدر، الذي يقع شرقي العاصمة القاهرة بالقرب من مدينة السويس، المطلة على قناة السويس، المجرى الملاحي الدولي المعروف.
وقد وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي هذه الخطوة قبل أشهر بأنها تراعي آدمية السجناء، وقال إن السلطات “حتى لو أذنب إنسان، فلن نعاقبه مرتين. سنعاقبه مرة واحدة بالسجن، لكنه سيقيم هناك بشكل آدمي وإنساني”.
وأصدرت وزارة الداخلية المصرية بيانا الأحد، نفت من خلاله صحة ما تم تداوله بشأن وجود انتهاكات بأحد مراكز الإصلاح والتأهيل في مصر.
بي بي سي نيوز عربي التقت بعض أسر هؤلاء السجناء، وأخفت هوياتهم حفاظا على سلامتهم.
“تواصل شبه منقطع”
يقضى زوج أسماء عقوبة بالسجن المشدد، بتهمة الانضمام لجماعة محظورة. ومنذ القبض عليه قبل بضعة سنوات، لم يسمح لها بزيارته. بالكاد لمحته داخل قفص المحكمة، المغطى بزجاج سميك.
تقول إنه ربما أقدم على محاولة الانتحار، بسبب ما تصفه بزيادة القيود على تواصله مع الأسرة، على عكس ما كان يتوقع. “عندما نقلوا إلى بدر، كان متفائلا بأن نقلهم لسجن حديث سيصاحبه ممارسات أكثر تسامحا، لكنهم صدموا بالواقع، حتى وصلوا إلى هذه المرحلة”.
طوال سنوات، اقتصر تواصل الزوجين على رسائل مكتوبة، تبادلوها خلسة أثناء رحلته بين السجن والمحكمة، كما هو حال عشرات الأسر ممن يمنعون من الزيارة.
وبعد انتهاء جلسات محاكمة الزوج قبل أشهر، تضاءلت قدرته على إرسال الرسائل شيئا فشيئا.
- علاء عبد الفتاح ورحلته من برمجة الكمبيوتر إلى “أشهر سجناء” مصر
- سجين سابق: تعذيب سجناء في مصر للاعتراف بأسماء آخرين
كما بات إرسال الرسائل مع زملائه الذين يحضرون جلسات المحكمة، مهمة شبه مستحيلة بعد نقلهم إلى بدر، فمعظم المحاكمات تنعقد داخل قاعات مخصصة، داخل “مركز الإصلاح والتأهيل” أو عبر تقنية الفيديو.
“معظم الرسائل التي وصلتنا في السنوات الماضية كانت شفهية، أو رسائل من سطر واحد تقول إنه بخير، دون مزيد من التفاصيل. رغم ذلك، كنا مطمئنين عليه. على الأقل كنا نعلم أنه حي، لكن لا نعلم كيف يعيش. أحيانا لا نعلم إن كان حيا أو ميتا”، تحكى أسماء.
“أسر مفككة”
عندما حبس الزوج، ترك رضيعا ترعاه أسماء. لم ير الأب أو الطفل بعضهما بعضا سوى مرة واحدة منذ ذلك الوقت، في إحدى قاعات المحاكم.
تقول أسماء لبي بي سي: “هناك أحداث كثيرة مرت بالأسرة، لو علم بها زوجي لأصيب بالصدمة. لقد تغير شكلنا، ولم نعد نعرف كيف يبدو شكله”.
وتتابع: “نعلم أن إطلاق سراحه مستحيل، لكن على الأقل اسمحوا لنا بزيارته”.
“ممارسات ضاغطة”
على مدار الأشهر الماضية، تكررت شكاوى سجناء من إضاءة بعض الزنازين ومراقبتها بالكاميرات طوال الليل، حتى أثناء نومهم أو تغيير ملابسهم.
ويقول حقوقيون إنه تم تخفيف الإضاءة في بعض العنابر في سجني بدر 1 و بدر 2، بينما لم يحدث ذلك في السجن الثالث.
وتشكو بعض الأسر من تعرض ذويها للضرب في سجن بدر 3، عقابا على تغطية بعض السجناء كاميرات المراقبة داخل محبسهم.
ووفقا لمحامين، منع نزلاء سجن بدر 3 بالكامل من الزيارات منذ نقلهم إلى هناك قبل أشهر، دون سبب واضح، بينما سمحت السلطات بالزيارة لمعظم سجناء السجنين الآخرين داخل “مركز بدر للإصلاح والتأهيل”.
وتخلق هذه الظروف ضغوطا قاسية على السجناء، بحسب الباحثة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والاجتماعية، ماريان سيدهم، فتقول: “السجناء يشعرون أنهم في مستشفى للأمراض العقلية، ويجب أن يكونوا تحت الملاحظة طوال الوقت”.
وتنتقد ماريان ما تصفه باختلاف معاملة السجناء قائلة: ” البعض يتشابهون في الوضع القانوني ويحبسون في نفس المكان، ومع ذلك يحصل كل منهم على حقوقه بطريقة مختلفة، كلٌ على حسب ملفه الأمني، والموافقات الأمنية على كل حق منفرد، وكأن السجن بلا قانون وبلا لائحة”.
إجراءات “مبررة”
بدورها، نفت وزارة الداخلية في بيانين منفصلين خلال أسبوع ما وصفته بادعاءات وأكاذيب حول أحد مراكز الإصلاح والتأهيل، دون تسمية سجن بدر.
ونقلت الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية تصريحات منسوبة إلى مصدر أمني لم تُسمِه، نفى خلالها صحة ما نقلته بعض القنوات التي وصفها بالداعمة لجماعة الإخوان المسلمين المصنفة كجماعة إرهابية محظورة في مصر، بشأن وجود انتهاكات أو عمليات تعذيب داخل أحد هذه المراكز.
وأشار المصدر إلى أن ذلك يأتي استمراراً لما وصفه بتزييف الحقائق الذى ينتهجه القائمون على تلك القنوات من المتعاونين مع الجماعة “الإرهابية” في محاولة يائسة لكسب التعاطف بعد فقدانهم مصداقيتهم بأوساط الرأي العام، وفق ما جاء في البيان.
وكثيرا ما أنكرت السلطات تعرض السجناء لسوء المعاملة. وتبرر منع البعض من الزيارة بسبب ما تقول إنه يتعلق بخطورتهم الأمنية.
ويقول رئيس مصلحة السجون السابق اللواء محمد نجيب، إن القانون يمنح المسجون زيارتين شهريا، لكن “مدى خطورة المسجون تحدد شكل زيارته، أو تواصله مع ذويه. لو كان شخصا خطيرا سيُمنع من الزيارة حتما”.
وبحسب نجيب، يحق لسلطات السجن منع بعض الزيارات، حتى لو سمح بها وكيل النيابة، على أن ترد السلطات على النيابة بأسباب هذا المنع.
ويستبعد رئيس مصلحة السجون السابق اللواء محمد نجيب حدوث هذه الممارسات، ويقول” الأنوار لا تضاء طوال 24 ساعة، هذا ليس كسجن غوانتانامو”.
كما يبرر مراقبة السجون بالكاميرات بأنه إجراء ضروري، لمنعهم من محاولة الهروب.
“رعاية صحية ممنوعة”
حتى لو لم يصل الحال ببعض السجناء للانتحار، فحياة عدد منهم في خطر بسبب منعهم من الزيارة، وذلك بحسب أسرهم ومحاميهم.
مصطفى مثلا، وهو اسم مستعار، يقول إن والده منع من إجراء جراحة ملحة، رغم موافقة النيابة.
وقضى والده خمس سنوات في الحبس الاحتياطي، في سجون شديدة الحراسة. ووفقا لمصطفى، فالفترة التي قضاها والده في بدر تعد أقسى من تجربة سجنه في باقي السجون.
ولم تتمكن الأسرة من زيارة الأب منذ نقل إلى سجن بدر العام الماضي. ويخشى مصطفى على حياة والده لو استمر هذا الحال. ويضيف: “لو لم يُجر هذه الجراحة قد يصاب بالسرطان. وربما يقتله مرضه في أي وقت”.
والإفراج عن الأب يعد حلما بعيد المنال بالنسبة لهذه الأسرة، لذا فكل ما يطالبون به هو السماح لهم بحقه في الزيارة والعلاج. ويقول مصطفى: “لا يعقل أن يمنع من هذه الحقوق في السجن الجديد، بينما كان يحصل عليها بشكل أفضل في سجن العقرب”.
وطالما وُصفت ظروف الحبس في سجن العقرب شديد الحراسة بأنها الأسوأ طوال السنوات الماضية، قبل أن تغلقه السلطات وتنقل نزلاءه إلى السجون الجديدة.
ويضيف مصطفى: “أحيانا نحاول إرسال الدواء عبر سلطات السجن، لكن نفاجأ بشكوى السجين من عدم وصولها على مدى شهرين مثلا. هذا يعني أنهم يتعمدون منعه من العلاج”.
هذا ليس حال والد مصطفى وحده، فعشرات السجناء لا يحصلون على رعاية كافية بحسب ماريان سيدهم، الباحثة في المبادرة المصرية، التي تقول: ” إذا كان البعض يواجه كل هذا التعنت، بالإضافة للمنع من الزيارة وكثير من الحقوق على مدار سنوات، فمن الطبيعي جدا أن يحاولوا الانتحار، أو أن يكونوا عرضة لأمراض مزمنة أو مميتة”.
وخلال الربع الأخير من العام الماضي، سجلت مؤسسات حقوقية مستقلة وفاة خمسة سجناء في سجن بدر. تعتبر ماريان أن هذه الحوادث مقلقة، وتقول: “أغلب من توفوا كانوا مضربين عن الطعام لفترات طويلة، ولم يتم إثبات إضرابهم في الأوراق الرسمية، أو كانوا مرضى تأخر حصولهم على الخدمة الطبية، أو لم يتم التعامل مع حالاتهم الصحية بجدية كافية”.
مراكز طبية “متطورة”
في المقابل، ينفي اللواء محمد نجيب حدوث هذه الوفيات بسبب الإهمال، ويقول: “السجون مجتمع كأي مجتمع، من الطبيعي أن تحدث فيه نسبة وفيات. كما أن النيابة تحقق في أي شبهة وفاة بسبب إهمال”.
كما ينفي منع بعض السجناء من حقهم في الرعاية الصحية، ويقول إن قرارات النيابة في هذا الصدد تنفذ بشكل وجوبي.
ويشيد نجيب بما يصفه بارتفاع مستوى الخدمة الطبية التي تقدم في السجون، ويقول إن بعض الجراحات باتت تجرى داخل مستشفيات السجون، وبشكل مجاني.
- جدل حول أحكام بالسجن في ظل دعوات الحوار في مصر – صحف عربية
- عائلة علاء عبدالفتاح تبدأ اعتصاما مفتوحا أمام مقر الخارجية البريطانية في لندن
كما يؤكد أن للسجناء الحق في إجراء العمليات الجراحية على نفقتهم الخاصة في مستشفيات خارج السجن، بشرط موافقة النيابة.
استراتيجية جديدة لحقوق الإنسان
خلال الأشهر الماضية، أطلقت السلطات سراح مئات المحبوسين احتياطيا، كما أصدرت عفوا عن آخرين، في إطار ما تصفه بتنفيذ استراتيجية جديدة لمراعاة حقوق الإنسان.
كما أعلنت وزارة الداخلية المصرية المسؤولة عن إدارة المؤسسات العقابية في مصر، أنها بصدد بدء التشغيل التجريبي لعدد آخر من “مراكز الإصلاح والتأهيل” في بعض المدن المصرية، كبديل لعدد من السجون القائمة حاليا.
ورغم الترحيب بهذه الخطوات، فإن الحكومة ومعارضيها يتفقون على أن هناك حاجة لبذل المزيد من الجهد لتحسين الوضع الحقوقي.
وبعد لقائنا بأسماء بفترة قليلة، تلقت رسالة مطمئنة من زوجها، أخبرها بأن حالته باتت مستقرة، وأنه نقل لسجن آخر من السجون الجديدة، وسمح له باستقبال بعض الطعام من أسرته بشكل دوري، لكنه بقي ممنوعا من الزيارة.
أما مصطفى، فما يزال يترقب أي تحسن ولو طفيف في وضع والده.
Comments are closed.