الأزهر والسلطة في مصر: كيف تدار العلاقة بين الطرفين؟

لا تلبث أن تنطفئ السجالات حول الأزهر في مصر، حتى تعود وتتأجج من جديد، على مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام.

ليس ذلك الأمر مستغرباً، نظراً لمكانة الأزهر الراسخة في المجتمع المصري وحضوره البارز على الساحة الإسلامية والدولية.

ولكن، مع تكرار الانتقادات الموجهة للمؤسسة الدينية العريقة في الأشهر الماضية، فسّر كثيرون الأمر على أنه قد يكون حملة ممنهجة من قبل النظام في مصر، ضدّ مشيخة الأزهر.

فعلى عكس دار الإفتاء، ووزارة الأوقاف، المقربتين من الحكم ومؤسساته، لا يدور الأزهر في فلك النظام، بل يقاوم “بحزم مهذب تعليمات الرئيس”، على اعتبار أن “مصداقية المؤسسات الدينية ترتكز على ترك مسافة آمنة بينها وبين الممارسات السياسية اليومية”، في ورقة بحثية صدرت عن مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط، بعنوان “من سيتحدث باسم الإسلام في مصر، ومن سيستمع؟” (2022).

وشهدت الأشهر القليلة الماضية محطتين لافتتين في الهجوم الإعلامي على أحمد الطيب؛ ففي شباط/ فبراير الماضي، وجهت انتقادات لاذعة لشيخ الأزهر مع استعادة تصريحات قديمة له، فسّرت على أنها إباحة لـ”ضرب الزوجة”.

وخرجت دار الإفتاء بتغريدة عبر حسابها الرسمي بموقف فسّر على أنه رسالة “نظامية” للأزهر، إذ غرّدت أن “الرجال لا يضربون النساء”.

وفي مطلع يوليو/ تموز الماضي، احتدّت النقاشات على تويتر بين وسمي “يسقط حكم الأزهر” و”الأزهر الشريف حصن الإسلام”، بعد فتوى للأزهر حول فرضية الحجاب في الإسلام.

هذه المرة، خرجت دار الإفتاء في بيان دفاعي، قائلة إن “الأزهر شاهد صدق ولسان عدل على وسطية الإسلام وسماحة تشريعاته في بناء الإنسان والأوطان”.

فما مدى الدقة في القول أنّ الهجمات الإعلامية على الأزهر “ممنهجة”، أو “متعمدة”؟

يقول أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، ناثان براون، لبي بي سي نيوز عربي، إن أي “هجوم” على الأزهر في الإعلام المصري، “له رمزية، لأن قبضة النظام محكمة على الإعلام بقوة”.

ويرى براون أن “السبب في ذلك كون الأزهر هو المؤسسة الوحيدة في الدولة المصرية التي لا تزال تحتفظ باستقلاليتها. وشيخ الأزهر هو من الشخصيات القليلة التي لا يمكن للرئيس أن يعزلها قانونياً”.

استقلالية الأزهر وتحدّي السلطة

يتناول ناثان براون والباحثة ميشيل دنّ حضور المؤسسات الحكومية المصرية القوي في المجال الديني، في ورقتهما “من سيتحدث باسم الإسلام في مصر، ومن سيستمع؟”.

بحسب البحث، فإنّ رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، عمل على بسط نفوذه على كافة مرافق السلطة ومناحي الحياة في مصر، ومن بينها السلطة الدينية، منذ وصوله إلى السلطة قبل نحو عشر سنوات.

وحرص السيسي على تقديم نفسه كـ “ساع لتجديد الخطاب الديني”، وكرأس حربة في استئصال جذوة الإسلام السياسي، ومحاربة التطرّف، بعد حقبة قصيرة من تولي حركة الإخوان المسلمين الحكم في البلاد. لذلك، يرى الحكم في مصر أن الأزهر يعدّ “جائزة سياسية مهمة”، يسعى للفوز به.

وبعد وصول السيسي إلى الحكم في يوليو/ تموز 2013، وبالرغم من إعلان شيخ الأزهر وبابا الكنيسة القبطية دعمهما للنظام الجديد، صدرت عن الطيب دعوات لمصالحة وطنية شاملة، واعتزل المشهد العام اعتراضاً على استخدام القوة في سحق الإخوان المسلمين.

وبحسب الدراسة، شعر السيسي بالاستياء من محاولات الطيب للبقاء على الحياد واعتبر أنه بذلك يضرّ “جهود الدولة في محاربة الإرهاب”.

من جانبه، يقول الأستاذ المساعد في “مركز روبرت شومن” للأبحاث جورج فهمي، والباحث المختص بالشؤون الأزهرية، إنه لا “يمكننا الحديث عن حملات إعلامية موجهة من الدولة في مصر ضد الأزهر، لكن يوجد بالتأكيد أصوات داخل الدولة وداخل الإعلام وكذلك في الوسط الثقافي وداخل المجال الديني نفسه غير راضية عن أداء شيخ الأزهر أحمد الطيب”.

ولكل طرف من هذه الأطراف، بحسب فهمي، أسبابه. بالنسبة للدولة، فإنّ استقلالية الأزهر تشكّل تحدياً للسلطة، وبالنسبة لبعض المثقفين والإعلاميين فإنّ “أحمد الطيب يقف حجر عثرة في مواجهة دعوات الإصلاح الديني، ويتحمّل مسؤولية جمود الفكر الديني”. أما بعض الشخصيات الدينية، فترى أنها في منافسة على النفوذ والشعبية مع الطيب.

بحسب فهمي، فإن “اختيار أحمد الطيب بأن يحافظ على مسافة تفصله عن النظام السياسي الحالي، في مواجهة اصطفاف كل من دار الإفتاء ووزارة الأوقاف خلفه، قد أعطاهما فرصة لزيادة نفوذيهما. فعلى سبيل المثال، أصدر رئيس الجمهورية العام الماضي قراراً جمهورياً باعتبار دار الإفتاء هيئة ذات طبيعة خاصة وهو ما يسمح للمفتي الحالي (شوقي علام) بعدم التقيد بسن التقاعد، وينزع عن الأزهر صلاحية اختيار خليفته”.

صراع نفوذ بجذور تاريخية

لهذا الصراع على النفوذ في المجال الديني، جذور تاريخية.

فعلى مرّ قرون، ومنذ تأسيسه في عام 972 في عهد الدولة الفاطمية، كان الأزهر المرجع الأبرز للإسلام في مصر. و”يعود الخلاف حول السيطرة على المدارس الإسلامية والمساجد وغيرها من الهيئات الدينية إلى القرن التاسع عشر، حين بدأ تأسيس الدولة المصرية النظامية الحديثة التي يسعى فيها الحكام للهيمنة على كافة مؤسسات البلاد وتوجيهها”.

وشهد القرن التاسع عشر تأسيس دار الإفتاء، عام 1895، مع “تحول مجموعة من المناصب الدينية إلى بيروقراطيات حكومية”.

كذلك، تأسست وزارة الأوقاف عام 1835، وهي جزء مباشر من السلطة التنفيذية، ونشأت بسبب تنامي الرقابة الإدارية على أوقاف الدولة المصرية الحديثة.

وبحسب البحث: “في فترة الستينيات اتخذ نظام الرئيس جمال عبد الناصر نهجاً تدخلياً واضحاً، ووصلت السيطرة المباشرة للدولة على الأجهزة الدينية ذروتها، أما في العقود التالية فقد خففت الدولة قبضتها تدريجياً، ورغم أن الحكام استمروا في التلاعب بالمؤسسات الدينية وضرب بعضها ببعض”.

خلال السنوات الماضية، تكرّست استقلالية الأزهر مع قانون مرره المجلس العسكري في كانون الثاني/ يناير 2012، أعاد إحياء هيئة كبار العلماء، وعلى رأسها الإمام الأكبر، الذي يختار أعضاء الهيئة. وتتولى الهيئة بدورها انتخاب شيخ الأزهر عند خلو منصبه.

سمح القانون لهيئة كبار العلماء بتسمية مفتي الجمهورية مع احتفاظ رئيس الجمهورية بحق إصدار قرار التعيين بناءً على ترشيح شيخ الأزهر، وذلك ما تغير مع صدور قرار جمهوري يمنح دار الإفتاء صفة “هيئة ذات طبيعة خاصة”.

وبحسب الدستور الصادر عام 2014، فإنّ الأزهر “هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم، وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء”.

ويقول جورج فهمي: “هناك أصوات داخل الدولة المصرية ترفض مساحة الاستقلال التي يسعى أحمد الطيب إلى تأمينها لمؤسسته وترى أن كلّ مؤسسات الدولة يجب أن تصطف خلف النظام السياسي بشكل واضح في ظل حالة التفكك التي تعانيها الكثير من دول المنطقة. وقد سعت تلك الأصوات بالفعل، في عام 2017، إلى تمرير مشروع قانون يسمح لشيخ الازهر بالبقاء في منصبه لمدة ولايتين فقط، مدة كل منها ست سنوات، إلا أن معارضة الأزهر الشريف لمشروع القانون انتهت إلى عدم التصويت عليه”.


تتصدّر المجال الديني في مصر ثلاث مؤسسات هي:

  • الأزهر: أقدم مؤسسة دينية في مصر، تأسست في عهد الدولة الفاطمية عام 972. إلى جانب المسجد، ومشيخة الأزهر، تتألف المؤسسة من المعاهد الأزهرية المنتشرة في أنحاء الجمهورية كافة، إلى جانب جامعة الأزهر. ويضمّ أيضاً هيئات بحثية، في مقدمتها مجمع البحوث الإسلامية ويهتمّ بتجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي. ويضمّ أيضاً هيئة كبار العلماء، وهي الهيئة التي أعاد الامام احمد الطيب إحيائها بعد 2011، وتتولى انتخاب شيخ الأزهر في حال خلو المنصب. يرأس مشيخة الأزهر حالياً الإمام أحمد الطيب الذي عينه الرئيس السابق حسني مبارك في عام 2010.
  • دار الإفتاء: تأسست عام 1895 وهي مؤسسة حكومية يرأسها مفتي الديار المصرية. وتتبع وزارة العدل هيكلياً، ولكنها تعرّف نفسها باعتبارها هيئة حكومية قائمة بذاتها، نالت استقلالها المالي عن وزارة العدل في عام 2007. هي الجهة المسؤولة عن إصدار الفتاوي للمواطنين ولمؤسسات الدولة فيما يتعلق بالشؤون الدينية. حالياً، يتولى منصب مفتي الديار المصرية الشيخ شوقي علام، وهو أستاذ في الفقه والشريعة الإسلامية، وهو أول مفتي ينتخب من قبل هيئة كبار علماء الأزهر بعد تعديلات قانون الأزهر عام 2012.
  • وزارة الأوقاف: تأسست عام 1835، حين أمر محمد علي باشا بإنشاء “ديوان عمومي للأوقاف”، ثم عاد وألغى ذلك الديوان عام 1837. وفي عام 1851، أمر عباس باشا الأول بإعادة ديوان عموم الأوقاف وأصدر أمراً آخر لتنظيم عمله. وفي عام 1913، صدر أمر بتحويل الديوان إلى نظارة، أي وزارة. وبعد تغيير النظام في عام 1952، صدر القانون رقم 157 لسنة 1960 الذي قضى بضم جميع المساجد الأهلية لسلطة الوزارة. وزير الأوقاف الحالي محمد مختار جمعة، عمل أستاذاً في جامعة الأزهر، وهو عضو في مجمع البحوث الإسلامية.

سياسة لا صدام

إلى جانب الوضع الدستوري والقانوني لمشيخة الأزهر، فإن الأزهر يتمتع بمكانة اجتماعية كبرى، بفضل مدارسه ومؤسساته، “ما يمنحه قاعدة شعبية واسعة، ويجعل الهجوم المباشر عليه صعباً”. يضاف إلى ذلك، حضور الطيب المتنامي بشكل ملحوظ على الساحة الدولية، بعد لقاءاته المتكررة مع بابا الفاتيكان فرنسيس، وتوقيعهما وثيقة “الأخوة الإنسانية” في الإمارات، عام 2019، ما عدّ محطّة مهمة في العلاقات الإسلامية المسيحية.

يقول ناثان براون إن استقلالية الأزهر ومكانته الكبرى، لا تعنيان “أن قادة الأزهر يضعون أنفسهم في خانة المعارضين للنظام، بل على العكس، فهم يتقبلون تماماً شرعية النظام السياسي القائم ويدعمون سلطة القيادة السياسية في إدارة البلاد بما يحقق الصالح العام”.

يتفق جورج فهي مع هذا الرأي، ويقول إن “أحمد الطيب يدير علاقته مع النظام السياسي بحكمة. فهي يسعى إلى الحفاظ على استقلالية الأزهر، ولكن من دون الاصطدام بالسلطة السياسية. وكذلك هو حال النظام السياسي، فهناك إلى إعادة هيكلة العلاقة بين المؤسسات الإسلامية الثلاث لصالح دار الإفتاء ووزارة الأوقاف، لكن من دون الاصطدام بأحمد الطيب”.

هذا الخلاف على النفوذ، لا يعدّ بالنسبة لناثان براون خلافاً فقهياً أو إيديولوجياً، بين المؤسسات الدينية في مصر. “فالمؤسسات الثلاث تتفق على القضايا الدينية الأساسية، وتعلن الانتماء إلى الإسلام الوسطي، وسعيها للحفاظ على التراث الإسلامي مع تطبيقه وفقاً لشروط العصر الحديث. قد تختلف تلك المؤسسات على تفاصيل بسيطة، ولكن التوجه العام هو نفسه، إذ لا يجب أن ننسى أنهم جميعاً متخرجون من الأزهر”.

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.