الهجرة: عندما تصبح الخيار الوحيد في لبنان

لبنان

EPA

تظافر عوامل الفقر والخوف من المستقبل والتوق لحياة مستقرة في دفع إلى موجة جديدة من الهجرة إلى الخارج.

يشبه الوضع اليوم في لبنان السيارة التي سقطت من مرتفع ولا تزال في حالة سقوط. راكبو السيارة في حالة هلع وصدمة. جلّ ما يتمنونه هو أن ترتطم السيارة بالأرض. علّهم يكتشفون حينها عمق القعر الذي هم فيه. ولكنهم حتى الآن لا يزالون في مرحلة سقوط غير متناه.

روزين بولص متخصصة بعلم النفس ولكنها لم تتمكن من التغلب على القلق والشعور بانعدام الأمان الذي تعيشه بسبب الانهيار الاقتصادي في لبنان. حسمت أمرها. ستهاجر مع ابنيها في منتصف الشهر الحالي. تقول رزين: “كل يوم ومنذ اللحظة الأولى التي أفتح فيها عيني، أشعر بالخوف مما ينتظرني ومما ينتظر أولادي… من حسن حظنا أننا نحمل الجنسية الفرنسية”.

لم تكن باريس ابدا في حسابات روزين في الأصل.

توفي زوجها قبل ثلاث سنوات ولكنه ترك لعائلته مبلغا من المال يمكّنها من الاستمرار بعده بكرامة. إلا أن تلك الأموال كانت في المصرف في الليرة اللبنانية. اليوم لم تعد تشكل ودائع روزين في المصرف أي ضمانة لها أو لولديها. فقد تراجعت قيمة الليرة اللبنانية منذ أقل من سنة بنسبة ثمانين في المئة بعد أن انهارت العملة الوطنية مقابل الدولار، كما حجزت المصارف بشكل غير قانوني علي أموال المودعين، ولا تزال.

حاولت روزين العمل ولكن الاشغال في البلاد معطلة والبطالة في ازدياد وفي كل شهر تِقفل مؤسسات بالعشرات، ان لم يكن بالمئات. فبدا الحل الوحيد لروزين هو الهجرة مع ابنيها.

موجات الهجرة

لا تتوفر أعداد رسمية لطالبي الهجرة في لبنان ولكن التوقعات هي أن نسبة الراغبين بذلك هائلة، وقد يشكل ذلك أكبر خسارة لبلاد لطالما اعتبرت أن العنصر البشري فيها هو من أبرز مقوَماتها.

شهد لبنان على مرّ التاريخ موجات متعددة من الهجرة بدءا من أيام العثمانيين عندما كان الكثيرون يركبون البواخر وينتهون في دول غير الدول التي اعتقدوا انهم ذاهبون اليها. حينذاك كان الفقر هو ما يدفع الناس الى الهجرة. ثم جاءت الحرب في السبعينيات وبدأت موجة أخرى من الهجرة هربا من القصف والاحتراب وانعدام الأمن.

لكن كثيرين ممن عايشوا الحرب يقولون إنه بالرغم من هولها لم يكن هناك ضيق اقتصادي بحجم الضيق الذي يمر به لبنان، خصوصا في ما يتعلق بحجم انتشاره. فما تشهده دولة لبنان اليوم في ذكرى المئة سنة على تأسيسها هو أكبر أزمة مالية واقتصادية ومصرفية في تاريخها.

منذ بدء التحركات الشعبية في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي،ِ حُكي الكثير عن الأسباب التي أوصلت البلاد الى هذه الحال وهي مرتبطة بالنموذج الاقتصادي الذي اعتِمد بعد الحرب اللبنانية، وبالهدر المالي والفساد والعجز بالميزان التجاري. غير أن لا يعرف حتى الآن هو كيفية الخروج من هذه الأزمة.

فقد أعدّت الحكومة الحالية في مايو/ أيار الماضي ما سمتها بخطة انقاذ اقتصادية، وطلبت رسميا المساعدة من صندوق النقد الدولي، الا أنه حتى اللحظة لم تتبلور أي خطوة عملية في اتجاه تطبيق هذه الخطة. كما أن المحادثات مع صندوق النقد الدولي معلقة بسبب خلافات لبنانية على تقدير حجم الخسائر المالية في البلاد والتي على أساسها تبدأ أي مفاوضات مع الصندوق او أي دائنين محتملين آخرين.

دفعت هذه المراوحة باثنين من المشاركين الأساسيين في الفريق اللبناني في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الى الاستقالة من منصبيهما٬ لوصولهما الى قناعة بأن لا نية حقيقة عند السلطة لاجراء إصلاحات. ويبدو أن تشابك المصالح السياسية والمالية وصراع النفوذ بين المصارف التي ترفض تحمّل المسؤولية عن الانهيار المالي والنقدي في البلاد، وبين من يعتبرون أن توزيع الخسائر لا يمكن الا أن يشمل المصارف وإعادة هيكلتها، يفاقم تردي الوضع الاقتصادي.

وبينما تغيب أي مبادرات جدية لتفعيل أي حل، يزداد الوضع المعيشي سوءا.

تقول أوليغ دكاش التي كانت قد عادت وعائلتها الى لبنان عام ٢٠١٧ بعد أن أمضت وزوجها سنوات طويلة في قطر: “كل شيء بات فاحش الغلاء، ليس فقط بالنسبة لنا، بل بالنسبة للجميع. لم نعد قادرين على تأمين الأساسيات لأولادنا”. وهي تستعد اليوم للهجرة مجددا، لكن هذه المرة الى كندا.

والدافع كما تقول: “في السنوات الثلاث الأخيرة التي أمضيتها في لبنان رأيت الويلات واكتشفت أني غير قادرة على العيش هنا”.

كثيرون في البلاد باتوا يشعرون كذلك. صحيح أن اللبنانيين تعايشوا منذ الحرب مع تراجع الخدمات في البلاد من كهرباء ومياه وأنتجوا أنظمة رديفة تغطي على عجز الدولة، غير أن الأزمة الحالية ذهبت أبعد من ذلك، فقد طالت معيشتهم اليومية ووصلت تداعياتها حتى الى غذائهم.

لا سقف للأسعار

وقد دفع الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الأساسية شرائح كثيرة الى التقشف في طعامها والتخلي عن اللحم بعد أن زاد سعره بمثابة الأربعة أضعاف عما كان عليه.

وما قد يكون أسوأ بعد هو أن ارتفاع الأسعار لا يبدو انه يعرف سقفا.

فمعظم المنتوجات والسلع المستهلكة في لبنان مستورد من الخارج وبالتالي يِدفع ثمنه بالدولار الذي بات فجأة عملة نادرة وباتت قيمته مقابل الليرة اللبنانية مفتوحة على مزايدات السوق السوداء، حتى بلغ سعره اليوم في تلك السوق ستة أضعاف سعره الثابت منذ عام ١٩٩٧ وحتى انفجار الأزمة الحالية في نهاية العام الماضي.

يترافق هذا الواقع مع زيادة كبيرة في نسبة الفقر والتي يتوقع البنك الدولي أن تتفاقم في العام الحالي، وسط تخوف من انفلات آمني، وتسجيل عدد من حالات الانتحار التي يِعتقد أنها مرتبطة بالظروف المعيشية.

ويقول إيلي أسود هو معالج فيزيائي، في التاسعة والثلاثين من العمر، يسعى للهجرة الى كندا: “وصلنا الى حائط مسدود في ما يتعلق بكل شيء إن كان بمهنتنا او بعائلتنا آو بمستقبلنا ومستقبل أولادنا. لم يعد بلدنا يقدم لنا أي شيء بتاتا، ولم يعد أمامنا من خيار سوى الهجرة”.

ليس الجوع أو الفقر وحدهما ما يدفعان الجميع للهجرة، انما الخوف من المستقبل والتوق لحياة مستقرة.

في كل وداع وحديث عن الرحيل، غصة كبيرة. روزين لا تخفي دموعها وتصر بأنها غير مهاجرة بل ستحتفظ بمنزلها في لبنان،

لتعود اليه بالتأكيد. أما إيلي فيتحدث عن تعلقه “غير الطبيعي” بلبنان، وتذكر أوليغ كيف أنها وزوجها عادا قبل ثلاث سنوات للاستقرار في البلد الأحبّ الى قلبهما. إلا أنها تعود وتقول: “العاطفة هي التي أعادتنا الى لبنان. ولكننا اكتشفنا أن العاطفة لا تطعم خبزا”.

مسؤولية الخبر: إن موقع "سيدر نيوز" غير مسؤول عن هذا الخبر شكلاً او مضموناً، وهو يعبّر فقط عن وجهة نظر مصدره أو كاتبه.

مواضيع تهمك

Comments are closed.